الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الحادي والعشرون: قوله "أقصى ما ذكره أنهم معتقدون كونه مركبا مؤلفا" فيقال: قد تقدم غير مرة أن لفظ التركيب والتأليف فيه اشتراك وإجمال، وإبهام وإيهام، وأنت لم ترد التركيب والتأليف المعروف في اللغة وهو أن يكون الشيء قد ركبه غيره أو ألفه غيره من شيئين مختلفين أو غير مختلفين أو ركبه في غيره، أو ألف بين شيئين كما قال تعالى: في أي صورة ما شاء ركبك [الانفطار: 8] وقال تعالى: هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم [الأنفال: 62، 63] [ ص: 442 ] وقال: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم [التوبة: 60]، فلم ترد ما يشبه هذا التأليف والتركيب المعروف من اللغة التي نزل بها القرآن، وإنما أرادت ما سميتموه أنتم تأليفا وتركيبا كما سمى المنطقيون الموصوف بالصفات مركبا مؤلفا، وبمثل هذا الكلام المجمل المتشابه الذي يذكرونه، وليس له أصل في كتاب الله وسنة رسوله، ضل من ضل كما وصف ذلك الأئمة، وذموا المتكلمين بمثل هذا الكلام كقول الإمام أحمد: "فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم"، وهذا كما ذكر الأئمة؛ فإن عامة الألفاظ التي يستعملونها هؤلاء من هذا الباب مثل لفظ الجسم، والمتحيز والجوهر، والطويل والعريض، والعميق، والمنقسم، والمؤلف والمركب، ليس فيها لفظ واحد [ ص: 443 ] هو باق على معناه في اللغة، ولا منها لفظ إلا وهو مجمل متشابه، يحتمل المعنيين المختلفين، ويكون أحد المعنيين مما يجب تنزيه الرب تعالى عنه عند أهل الإيمان، وفي صريح العقل، كما يجب تنزيهه عن مماثلة المخلوقات وعن أن يكون يفتقر إلى غيره، أو مفعولا لغيره حتى يركبه أو يؤلفه، أو غير ذلك من المعاني، ويكون المعنى الآخر مما أثبته القرآن والعقل، أو مما لا يعلم نفيه، أو مما يقتصر العقل على دركه، أو هو معنى دقيق يحتاج إلى نظر طويل وعلوم كثيرة، فيطلقون نفي ذلك اللفظ المشترك مقرونا بالتنزيه والتعظيم فيقوم الاشتباه في ذهن المستمع، حتى يظن ابتداء أن المنفي / هو المعنى الذي نفاه القرآن والعقل، ثم لا يميز بين هذا وذاك فينفي المعنيين جميعا بغير حجة، ويقع في القياس الفاسد بسبب اشتراك اللفظ، ولهذا ذم السلف والأئمة هؤلاء المتكلمين الجهمية، وأخبروا أن [من] وافقهم على ما ابتدعوه من الألفاظ والمعاني فإنه لابد أن يتجهم كما رواه الخلال عن أبي داود السجستاني [ ص: 444 ] سمعت أبا ثور قال: "قال لي الشافعي يا أبا ثور، ما رأيت أحدا ارتدى شيئا من الكلام فأفلح"، وعن أبي يوسف قال: "العلم بالكلام يدعو إلى الزندقة" وعن أبي عمر الضرير [ ص: 445 ] قال: "العلم بالكلام بمنزلة العلم بالتخنث كلما كان صاحبه يزداد علما كان أشد لفساده".

وعن عبد الملك [بن] الماجشون أنه أوصى رجلا فقال: "إياك والكلام فإن لأوله آخر سوء" وعن يزيد بن هارون قال: "لو تكلمت ما أمنت أن أبتدع" وقال: "من تكلم ابتدع، ولو سكتت المرجئة لم يبتدعوا" وقال: "إن المرجئة كانت لسان أهل السنة حتى غلوا، نسأل الله العافية" والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[ ص: 446 ] فرغ من تعليقه أبو بكر بن المجد بن ماجد المقدسي بتاريخ العشرين من شهر جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بالقاهرة المصرية.

وحسبنا الله ونعم الوكيل [ ص: 447 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية