الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما قوله في تأويل الغيرة: «معناه الزجر؛ لأن الغيرة [ ص: 414 ] حالة نفسانية مقتضية للزجر والمنع، فكني بالسبب عن المسبب ههنا».

فالكلام على هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال: لا ريب أن الغيرة تستلزم المنع والزجر مما يغار منه، وكذلك الغضب والبغض ونحو ذلك من الصفات، كما أن الحب والرضا يتضمن اقتضاء المحبوب المرضي وطلبه والأمر به، لكن كون الصفة تستلزم فعلا من الأفعال، أو كون اللفظ يتضمن ذلك لا يقتضي أن يكون الثابت مجرد اللازم دون الملزوم.

الوجه الثاني: أن هذه الصفات كلها والأحوال كالغيرة والغضب والبغض والمقت والسخط والحب والرضا والإرادة وغير ذلك هي مستلزمة لأمور أخرى من أقوال وأفعال، فهل تحمل على تلك اللوازم ويبقى الملازم أم يثبتان جميعا أم يفرق بين البعض والبعض؟ فإن قيل: بالأول لزم ثبوت المراد بالإرادة، وأن تكون إرادة الله هي المخلوقات، ولزم أيضا [ ص: 415 ] وجود محبوب مرضي بلا محبة ولا رضا، بل يلزم وجود مخلوق بلا خلق، وهذا كله مما يقوله الجهمية من المعتزلة ونحوهم، فإنهم لا يثبتون خلقا ولا حبا ولا رضا ولا سخطا ولا غير ذلك سوى المفعولات التي هي من لوازم هذه الأمور في الشاهد، ولهم في الإرادة نزاع كله باطل؛ فإن منهم من نفاها كما نفى سائر هذه الأمور، ومنهم من جعلها صفة حادثة بلا إرادة قائمة في غير محل، وكلا هذين القولين معلوم الفساد بالضرورة.

ثم الكلابية والأشعرية ونحوهم من الصفاتية قد يوافقون هؤلاء في بعض الأمور، كقولهم: الخلق هو المخلوقات وكرد من رد منهم هذه الصفات إلى الإرادة، فإن هؤلاء يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما لزمهم فيما ردوه، وطرد هذه المقالات التي يثبتون فيها الأثر بدون مؤثره هو ثبوت الوجود بدون الخالق له، وذلك [ ص: 416 ] تعطيل الصانع، وهذا هو في الحقيقة قول جهم وإن كان متناقضا في ذلك، يجمع في مقالاته بين ما يقتضي ثبوته وما يقتضي عدمه، فالمقصود هنا مقالته السالبة التي خالف فيها أهل الإسلام، فإن مضمونها تعطيل الصانع تعالى؛ ولهذا تجد كل شيء من فروع هذه المقالة متى قسته وطردته استلزم عدم الصانع، أو التناقض بالجمع بين الإثبات والنفي في الشيء الواحد، أو نفي الإيجاب والامتناع في المتماثلين، وإلا فما من شيء يقرون به إلا لزمهم فيه نظير ما أنكروه فيما نفوه.

الوجه الثالث: قوله: «الغيرة حالة نفسانية» قيل له: وجميع الصفات هي لنا أحوال نفسانية، كالحب والبغض والرضا والغضب وكالإرادة، فإنها أيضا حالة نفسانية، وهي مقتضية للزجر تارة وللطلب أخرى، لا فرق أصلا بينهما في الشاهد.

الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتعجبون من غيرة سعد [ ص: 417 ] والله لأنا أغير منه، والله أغير مني» وهذا ترتيب للغيرة: ثلاث مراتب، وجعل كل غيرة أقوى من الأخرى، فلو كان قوله: «والله أغير منى» ليس المراد منه الغيرة بل مجرد المنع، وقوله: «أنا أغير منه» يراد به العزة لكان هذا شاذا في الكلام، وهو أيضا تلبيس على المخاطب بلا قرينة تبين المراد.

الوجه الخامس: أن تأويله ذلك بالزجر والمنع يقال له: الزجر والمنع، إما أن تفسره بالكلام أو بغير ذلك من نحوه، وعلى كل حال فيقال لك: زجر الله ومنعه الذي هو كلامه مثلا هو من جنس زجرنا ومنعنا وكلامنا أم ليس كذلك؟ فبأي شيء قال في ذلك لزمه مثله في الغيرة، فإنه إذا ثبت له زجرا ومنعا ولنا زجر ومنع ولم يكن ذلك ممتنعا فهلا أثبت له غيرة ولنا غيرة، ولا يكون ذلك ممتنعا مع أنه مقتضى النص، وكل ما ذكره من ذلك من مشابهة ومخالفة يقال في الآخر مثله، لا فرق بينهما أصلا.

الوجه السادس: أن الزجر والمنع الذي هو الكلام إما أن تفسره بمجرد اللفظ أو بمجرد المعنى أو بمجموعهما [ ص: 418 ] وإذا فسرته بمجرد اللفظ فلا بد من إثبات معنى يكون معنى اللفظ، وإلا فاللفظ بلا معنى هذيان، وإن كان هناك معنى هو مدلول لفظ الزجر والمنع فذاك المعنى لا بد أن يكون من جنس البغض والكراهة ونحو ذلك، فإن لفظ الزجر إن لم يتضمن ذلك لم يعقل منه النهي بحال، وإذا كان كذلك فهذا الذي هو مدلول لفظ الزجر مستلزم لمعنى الغيرة الذي هو البغض والمقت والكراهة لما يغار منه، فيكون المسبب الذي أول به لفظ الغيرة مستلزما للسبب، بحيث يمتنع وجوده بدونه، وإذا لزم من نفي الغيرة إثباتها علم أن نفيها محال.

الوجه السابع: أنه قال: «لا أحد أغير من الله» وقال: «الله أغير مني» وصيغة أفعل التفضيل توجب الاشتراك في معنى اللفظ مع رجحان المفضل أو اختصاص المفضل بمعنى اللفظ، ولا يجوز اختصاص المفضول بمعنى اللفظ، وهذا يوجب أن يكون الله موصوفا بالغيرة على كل تقدير، ثم يقال: التفضيل بصيغة أفعل ليس في مجرد اللفظ، ولا يجوز أن يكون للفظ معنيان، واللفظ يقال عليهما بالاشتراك اللفظي [ ص: 419 ] أو بالحقيقة والمجاز، بل يجب أن يكون اللفظ دالا عليهما بالتواطؤ أو التشكيك الذي هو نوع من المتواطئ، فلا يقال: هذا أجسم من هذا. ويكون المراد بهما كثافة أحدهما وكبر قدر الآخر، بل يكون اللفظ دالا على المعنيين بالتواطؤ.

الوجه الثامن: أنه قال: «لا أحد أغير من الله» كما قال: «لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من [ ص: 420 ] الله» فلفظ «أغير» كلفظ «أحب» كلاهما في هذه الأحاديث وما يقال في الغيرة يقال في المحبة ما هو مثله، أو أعظم منه، فإن المحبة المشهودة في الآدميين كالعشق ونحوه أعظم من كثير من الغيرة، فلا يجوز والحال هذه تأويل الغيرة دون المحبة والمحبة ثابتة بالقرآن في غير موضع وبالأحاديث المتواترة، وسنتكلم إن شاء الله على تأويلها.

الوجه التاسع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة الصحيح: «إن الله تعالى يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه» فأخبر بذلك خبرا مبتدأ مجردا، ولم يقيد ذلك بما يخالف إطلاقه، فلو كان المراد بذلك خلاف مدلوله لم يجز، وكذلك قوله: «لا أحد أغير من الله».

التالي السابق


الخدمات العلمية