الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثاني: أن قوله تكون "في" بمعنى الباء، والتقدير فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي عرفوها في الدنيا؛ وذلك بأن يريهم ملكا من الملائكة. ونظيره قول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام [البقرة: 210] يقال:

أولا: هذا تبديل للغة وقلب لها؛ فإن الباء في مثل قولك: جئت بهذا، تكون لتعدية الفعل؛ ولهذا يقول النحاة: إن أسباب التعدية ثلاثة: الهمزة والتضعيف والباء. تقول أتاه مال ثم تعديه فتقول: آتاه مالا، وتقول: أتاه به، وتقول جاءه به، وتقول: أجاءه إلى كذا، وتقول: علم هذا، وعلمته هذا، ومن المعلوم أن فعل أتى وجاء تستعمل تارة لازما وتارة متعديا.

فالأول كقوله تعالى: وجاء إخوة يوسف [يوسف: 58] ونحوه.

والثاني: كقوله تعالى: وجاءهم الموج من كل مكان [يونس: 22] وقوله: أتأتون الذكران [الشعراء: 165] وقوله: [ ص: 79 ] لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [الحديد: 23] على قراءة القصر، وعلى قراءة المد، فيكون متعديا إلى مفعولين، والعائد محذوف على هذه القراءة، وقوله: وآتاكم من كل ما سألتموه [إبراهيم: 34] وقوله: ويؤت كل ذي فضل فضله [هود: 3] ونحوه، وقوله: آتوني زبر الحديد [الكهف: 96] وآتوا الزكاة [البقرة: 43] فهذا الفعل المتعدي إذا عدي بالهمزة كان المعنى بمنزلة أعطى، والتقدير أن الأول جعل الثاني آتيا، فإذا قيل: "ويؤت كل ذي فضل فضله، آتوني زبر الحديد" كان التقدير أن يجعل الفضل آتيا وزبر الحديد آتية، كما في قوله: أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق [الإسراء: 80]، فإن دخل وخرج يتعدى إلى الظرف والمصدر، فإذا دخلته الهمزة صار الفاعل مفعولا به، والمعنى داخلا مدخل صدق، واجعلني خارجا مخرج صدق، وإذا عدي هذا المتعدي بالباء اقتضى أن الإتيان ألصق بذلك المجرور.

فإذا قيل: أتاهم بهذا، أي جعل إتيانهم لاصقا بذلك المأتي [ ص: 80 ] به، فيكون قد أتاهم ضرورة. وأما كون نفس الفاعل هنا جاء بنفسه أو لا يجب أنه جاء كما في قوله: فأتاهم الله [الحشر: 2] فهذا فيه تفصيل، فإن من الناس من يسوي بين أخرجه وأخرج به، والصواب الفرق.

والمقصود هنا أن المجرور بالباء في مثل هذا يدل اللفظ دلالة صريحة على أنه ألصق به الإتيان والمجيء كالذي جعله غيره آتيا وجائيا، كما في قوله تعالى: عسى الله أن يأتيني بهم جميعا [يوسف: 83]، إنما يأتيكم به الله إن شاء [هود: 33]، فأتاهم الله بعذاب ، وقوله: فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها [النمل: 37]، وليس في مثل هذا النظم إشعار بأن المأتي به ظرف للفعل إلى الفاعل ولا أن الفاعل فوقه أو في جوفه أو غير ذلك من المعاني التي يدل عليها لفظ "الباء"، فأما لفظ "في" فله خاصة يدل عليها، لا تحصل بحرف الباء، فجعله بمعنى الباء تحريف للكلم عن مواضعه وتبديل للغة إذا جاء في صورة حسنة، أو حال حسن، أو ثياب حسنة، أو طائفة [ ص: 81 ] من الناس، أو مركب من المراكب، ونحو ذلك، فلا بد وأن يكون المأتي فيه مما يصلح أن يسمى في اصطلاح النحاة ظرفا لا يكتفي في ذلك بمجرد أن يكون مأتيا به، والذي يبين هذا أن المواضع التي جاءت بحرف الإلصاق في القرآن والحديث لا يصلح أن تستعمل بحرف الظرف إلا حيث يكون الظرف مقصودا، فلا يصلح أن يقال: عسى الله أن يأتيني فيهم جميعا، إنما يأتيكم فيه الله، أن يصيبكم الله في عذاب من عنده.

أما قوله: فلنأتينهم بجنود [النمل: 37] وإذا قيل: لنأتينهم في جنود فإنه يصلح إن كان هو الذاهب في الجنود، فإن الجنود تكون محدقة به، ومثل هذا المعنى يعبر عنه بـ "في"، أما إذا أرسل الجنود ولم يذهب بنفسه فلا يصلح أن يقال: فلنأتينهم في جنود، وإنما يقال: لنأتينهم بجنود، وهذا من مشهور اللغة التي يعرفها عامة العلماء بها.

وإذا كان كذلك فهذا التأويل فيه مع تحريف الحديث تحريف القرآن، فإن قوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام [البقرة: 210] لا يصلح أن يراد أنه هو يرسل ذلك، ولا يأتي، كما تقدم. [ ص: 82 ] وأما نقلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أتى بظلل من الغمام بمعنى أنه يرسلها، ولا يجيء هو. فهذا كذب على ابن عباس ولم يذكروا له إسنادا.

وقد روي عن ابن عباس من وجوه أن الله نفسه يجيء كما رواه عثمان بن سعيد قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن يوسف بن [ ص: 83 ] مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا [الفرقان: 25] قال: ينزل أهل السماء الدنيا وهم أكثر من أهل الأرض ومن الجن والإنس، فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، وسيأتي. ثم تشقق السماء الثانية وساقه إلى السماء السابعة، قال: فيقولون: أفيكم ربنا فيقولون: لا، وسيأتي، ثم يأتي الرب تبارك وتعالى في الكروبيين، وهم أكثر من أهل السموات والأرض. [ ص: 84 ] قال: وحدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو شهاب، عن عوف، عن أبي المنهال، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، فإذا كان ذلك قبضت هذه السماء الدنيا على أهلها، فنشروا على وجه الأرض، فإذا أهل السماء الدنيا أكثر من جميع أهل الأرض، فإذا رآهم أهل الأرض فزعوا وقالوا: أفيكم [ ص: 85 ] ربنا فيقولون: ليس فينا، وهو آت. قال: ثم يقبض أهل السماء الثانية، وساق إلى السماء السابعة قال: فلأهل السماء السابعة وحدهم أكثر من أهل ست سموات، ومن جميع أهل الأرض بالضعف، قال: ويجيء الله تعالى فيهم والأمم جثيا، صفوف، قال: فينادي مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم. وسيأتي إن شاء الله تعالى تقرير ذلك في تفسير إتيان الله تعالى؛ إذ ليس هذا موضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية