الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثامن عشر: قوله: «فوجب حمل هذا اللفظ على مجازه؛ وذلك لأن الجسم الذي يكون هذا شأنه مبرأ عن الانفصال والتباين عن الغير، وهو سبحانه وتعالى واجب [ ص: 572 ] الوجود لذاته، وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان، فكان المراد من الصمد في حقه تعالى هو هذا المعنى».

يقال له: مجازه الذي حملته عليه إما أن يكون هو معنى واجب الوجود أو يكون مقتضاه الذي ذكرته من أنه غير قابل للزيادة والنقصان، فإن كان معنى الصمد هو معنى واجب الوجود كان هذا التفسير مخالفا لإجماع المسلمين وإجماع أهل اللغة وأهل التفسير.

فإن اسم الصمد وإن استلزم وجوب وجوده بنفسه لكن ليس معناه مجرد وجوده بنفسه.

ولا هذا معنى مما كان يجهله السائلون من المشركين وأهل الكتاب، ولا هو مما فيه نزاع بين أهل الأرض. فإن الخلائق متفقون على ثبوت وجود، وإن الوجود لا يمكن أن يكون كله مفتقرا إلى غيره، بل لا بد من وجود غير مفتقر إلى غيره، ولكن قد يقول المبطلون: هو أصول للعالم، ونحو ذلك، كما يقوله الجاحدون المعطلون الذين يظهرون جحود [ ص: 573 ] رب العالمين، كفرعون وذويه وغالية القرامطة الباطنية.

وبالجملة: فمعنى رب العالمين أبلغ من معنى واجب الوجود؛ فإن كونه رب العالمين يقتضي ربوبيته للعالمين، ويستلزم قيامه بنفسه.

وإن قال: بل معنى الصمد هو الذي لا يقبل الزيادة والنقصان، وهذا هو الذي يدل عليه كلامه، وهو الذي أراده، والله أعلم.

قيل له: الزيادة والنقصان من عوارض الكم، فقولك: هو غير قابل للزيادة والنقصان يحتمل شيئين:

أحدهما: أن تكون ذاته بحيث لا يعقل زيادتها ونقصانها.

الثاني: أن تكون زيادتها ونقصانها ممتنعا عليها.

وأي المعنيين قصد به أمكن أن يقال في كونه: لا جوف له، أو لا يقبل التفرق والانفصال مثل ذلك؛ إذ هذا يحتمل معنيين:

[ ص: 574 ] أحدهما: أن تكون ذاته لا يعقل أن يكون لها جوف، ولا يعقل وصفها بالتفرق والاجتماع والاتصال والانفصال.

والثاني أن يقال: التفرق والانفصال ممتنع عليها، فإذا كان الذي جعلته مجازا في هذا الاسم الشريف يلزمك فيه ما لزمك في مسماه الحقيقي الذي فسره به الصحابة والتابعون وهو حقيقة في اللغة كان عدولك عن هذا إلى هذا الذي ركبت فيه أنواعا من المحاذير لغير فائدة قط بمنزلة الذي يركب البحار والمفاوز والقفار لقصد التجارة، ثم ذهب فباع ذهبه بمثله في الزنة والوصف، أو بما هو دونه، أو بمنزلة المستجير من الرمضاء بالنار، ومعلوم أن هذا ليس من فعل أهل العقل والدين، مع ما فيه من الكذب والافتراء على رب العالمين. يوضح هذا:

الوجه التاسع عشر: وهو أنه لا فرق بين قول القائل: «الصمد الذي لا يدخل فيه غيره ولا يخرج منه غيره» وبين قوله: [ ص: 575 ] «الذي لا يزيد ولا ينقص» فإنه إن اعتبر بمجرد السلب أمكنه ذلك في الموضعين، وإن اعتبر بامتناع المسلوب بأن يقول: هو الذي لا يمكن أن يدخل فيه غيره أو يخرج منه غيره كان بمنزلة أن يقول: لا يقبل الزيادة والنقصان، سواء فسر عدم الإمكان بعدم إمكان تصور ذلك في الموصوف أو بامتناع ذلك في الموصوف، كقول منازعيهم.

الوجه العشرون: أنه قد يقال: دخول الشيء في غيره زيادة فيه، وخروج بعضه منه نقص منه، فهذا نوع من الزيادة والنقصان، فإذا وصفه بأنه غير قابل للزيادة والنقصان كان قد دخل في ذلك غير قابل لهذه الزيادة ولهذا النقصان.

فإذا قيل: المصمت الذي لا يدخل أو لا يمكن أن يدخل فيه شيء غيره، ولا ينفصل عنه شيء، وقيل: إنه لا يمكن ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى - كان هذا تناقضا ظاهرا؛ لأن امتناع الجنس عليه يستلزم سلب أنواعه، فكيف يقال: إنه موصوف بعدم قبول الزيادة والنقصان، أو بعدم الزيادة والنقصان، ولا يكون موصوفا بعدم قبول هذه الزيادة وهذا النقص أو بعدم ذلك؟!

[ ص: 575 ]

الوجه الحادي والعشرون: أنه قد يقال: دخول شيء فيه وخروج شيء منه هو نفس الزيادة والنقصان؛ إذ الدخول أعم من أن يكون دخولا في جوفه أو جوانبه، فالزائد دخل فيه شيء من غيره والناقص خرج منه بعضه، فإذا كان أحدهما هو الآخر فوصفه بالسلب أو الامتناع لأحدهما دون الآخر تناقض ظاهر، فإن كان هذا حقيقة للصمد كان الآخر حقيقته، وإن كان هذا مجازه كان الآخر مجازه، يقال: دخل في أرض هؤلاء من أرض هؤلاء، وقد دخلوا في حد جيرانهم، وقد أدخلوا في حد أرضهم بعض أرض جيرانهم، ونحو ذلك مما فيه وصف الزيادة من الجوانب بلفظ الدخول.

الوجه الثاني والعشرون: إن الذي قاله السلف: «إن الصمد هو الذي لا جوف له» هذا أخص من كونه لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء، فإن الشيء قد يكون مصمتا، ومع هذا يمكن أن يدخل فيه شيء غيره، ويخرج منه شيء من جوانبه [ ص: 577 ] أو من الصفات القائمة به، فإن الأجسام الصمد المصمتة كالحجارة يمكن أن تزاد بصفات تقوم بها ويمكن أن تنقص صفاتها، وإن لم يكن لها جوف.

الوجه الثالث والعشرون: قوله: «وذلك يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان» إما أن يعني به أن ذاته لا تقبل أن يزاد فيها وينقص منها، أو يعني به أنها لا توصف بنفي الزيادة والنقصان عنها، كما لا يوصف بثبوتها.

وهذان المعنيان هما اللذان ذكرهما في الوصف بعدم النهاية لما قال له المنازع: «ألستم تقولون: إنه غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتمونا» أو رده عليه في حجته في أنه لو كان فوق العرش لكان متناهيا من جميع [ ص: 578 ] الجوانب أو بعضها، أو غير متناه، وكل ذلك محال.

فقال: قلنا: الشيء الذي يقال: إنه غير متناه، على وجهين:

أحدهما: أنه غير مختص بحيز وجهة، ومتى كان كذلك امتنع أن يكون لها طرف أو نهاية وحد.

والثاني: أنه مختص بجهة وحيز، إلا أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد.

وقال: فنحن إذا قلنا: إنه لا نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الأول، وقد تقدم الكلام على ما ذكره، وبينا أن ما قاله لا يوصف به إلا المعدوم.

والمقصود هنا أن قوله: «يقتضي كونه غير قابل للزيادة والنقصان» يفسر بهذين الوجهين، فإما أن يعني أن ذاته لا تقبل أن [ ص: 579 ] يزاد فيها وينقص منها، وإما أن يعني به أن ذاته لا توصف بنفي الزيادة والنقص، ولا بثبوت ذلك.

وتوجيه ذلك أن يقال: إما أن تكون ذاته لها قدر وحد، وإذا امتنع ذلك امتنع أن يوصف بنفي الزيادة والنقص، كما يمتنع أن يوصف ثبوت ذلك؛ إذ الوصف بثبوت ذلك ونفيه إنما يكون عما له قدر فإن أراد به: لا تزيد ولا تنقص، وهذا هو قول منازعيه الذين يسميهم المجسمة بعينه.

وإن أراد أن ذاته لا توصف بنفي ذلك كما لا توصف بثبوته فيقال له: قولك: «يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان» إنما يدل على المعنى الأول، فإنك لم تقل: هو موصوف بالمقدار والحد الذي يلزمه أحد النقيضين بثبوت الزيادة والنقص، وبعدم ذلك، أو بإمكان ذلك واستحالته، بل قلت: يقتضي أن يكون تعالى غير قابل للزيادة والنقصان فنفيت عنه قبول ثبوت هذين الأمرين، ولم تنف عنه إمكان النقيضين من ثبوت ذلك ونفيه، بخلاف ما ذكرته في [ ص: 580 ] نفي النهاية؛ فإنك نفيت ما يستلزم الوصف بالنهاية وعدمها، وإذا كان كذلك كان ظاهر القول أن معنى هذا اللفظ أن له قدرا خاصا لكنه لا يقبل الزيادة والنقصان، وهذا تصريح قول منازعيه الذين سماهم مجسمة، وذلك مع دلالته على التناقض فإنه يقتضي أن يكون هذا المعنى لازما لهذا الاسم بطريق المجاز، كما هو لازم له بطريق الحقيقة، وأنه لا يمكن رفع دلالة هذا الاسم على هذا المعنى.

الوجه الرابع والعشرون: أن كونه غير قابل للزيادة والنقصان إن لم يكن ظاهره إثبات القدر مع نفي الزيادة والنقصان فأحسن أحواله أن يكون مجملا، محتملا لهذا، ولنفي القدر المستلزم عدم اتصافه بالنقيضين.

وإذا كان ما فسر به الاسم مجملا يحتمل قوله وقول منازعيه، وقد ذكر أنه المجاز الذي يمكن حمل هذا الاسم عليه - علم أن الاسم لا ينفي قول منازعيه على تقدير حمله على المجاز، بل يحتمله، مع أن حقيقته ظاهرة فيه. وإذا كان قول منازعيه هو حقيقة اللفظ ومجاز اللفظ يحتمله كما يحتمل قول المدعي، كان دلالة الاسم على قول منازعيه هو الذي يجب حمله عليه.

[ ص: 581 ] الوجه الخامس والعشرون: أن يقال: هب أنك صرحت بأن مجاز الاسم هو كونه لا قدر له، وإذا لم يكن له قدر فلا يجوز وصفه بالزيادة والنقص، ولا يجوز وصفه بعدم الزيادة والنقص، فإن كون الشيء يزيد وينقص أو لا يزيد ولا ينقص فرع كونه ذا قدر، فما لا قدر له لا يقبل الوصف بالزيادة والنقصان، ولا الوصف بأنه لا يزيد ولا ينقص كالمعدوم، لا يقال فيه: إنه يزيد وينقص، ولا يقال فيه: إنه لا يزيد ولا ينقص، وقد بسطنا هذا في الوصف بالنهاية وعدمها.

التالي السابق


الخدمات العلمية