الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قلت: أما استدلال المجسمة الذين يقولون: إن الله لحم ودم وعظم ونحو ذلك، أو الذين يجعلون البارئ من جنس شيء من الأجسام المخلوقة بهذا الاسم – فباطل؛ لوجوه:

أحدها: أن اللفظ لا يدل على ذلك بشيء من تفاسيره؛ فإن كونه لا جوف له أو كونه مصمتا أو غير ذلك لا يقتضي أن يكون من جنس شيء من المخلوقات أصلا، فضلا عن أن يقال: إنه لحم ودم وعظم كالحيوان.

الثاني أن الملائكة موصوفة بأنها صمد، والأجسام المصمتة موصوفة بأنها صمد، وليست لحما ودما، فكيف يقال: إن البارئ إذا وصف بأنه صمد لا جوف له يقتضي ذلك؟! [ ص: 596 ] الثالث: أن سبب نزول هذه الآية سؤال من سأل عن الرب تعالى: أهو من ذهب أو فضة أو من كذا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية بين فيها أنه ليس من جنس شيء من المخلوقات.

الرابع: أنه أخبر في هذه السورة بأنه أحد، وأنه ليس له كفوا أحد، وهذا يمنع أن يكون من جنس شيء من المخلوقات.

الخامس: أنه أخبر في السورة بأنه الصمد، ولم يقل: إنه صمد؛ إذ كل ما سواه يجوز عليه التفرق والتبعيض، وهو الصمد الذي لا يجوز عليه أن يتبعض ويتفرق بوجه من الوجوه.

وأما استدلال هؤلاء المتأخرين بذلك على نفي الجسم والحد فباطل أيضا، بل هو قلب للدلالة، فإن كون الموصوف مصمتا لا يمنع أن يكون جسما أو محدودا كسائر ما وصف بأنه صمد، فإن الملائكة توصف بأنها صمد، وكذلك الأجسام المصمتة، فكيف يقال: إن كونه صمدا أو مصمتا ولا جوف له ينافي أن يكون جسما محدودا؟! هذا قلب اللغة وتبديلها.

[ ص: 597 ] وأما قول القائل: «إن الصمد المصمت الذي هو شيء واحد» فهذا يقوله المثبت ويقوله النافي، فإن كونه لا يتبعض مجمل، يراد به أنه لا ينفصل منه شيء، وهو التفسير المأثور عن السلف، ويراد به الذي لا يعلم منه شيء دون شيء، وهو مراد نفاة الجسم.

وكذلك نفي التركيب مجمل، يقوله المثبت والنافي؛ فإن التركيب يراد به التركيب المعروف في اللغة وهو أن يكون قد ركب الشيء والشيء، كما قال الله تعالى: في أي صورة ما شاء ركبك [الانفطار: 8] والله عز وجل مقدس عن أن يكون ركبه مركب، أو أن تكون ذاته كانت أجزاء متفرقة فاجتمعت وتركبت.

ويراد بالتركيب أنه لا يعلم منه شيء دون شيء، فنفاة الصفات من الفلاسفة والمعتزلة يقولون: ثبوت الوجه واليدين تركيب، وهؤلاء يقولون: ثبوت الوجه واليدين تركيب وعدد، ومعلوم أن هذا الاسم لا ينفي هذا المعنى، وإنما ينفي [ ص: 598 ] الأول؛ لأن الصمد يتضمن معنى الاجتماع، وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه هو الصمد بصيغة الحصر؛ ليبين أنه الكامل في الصمدية، المستحق لها على الحقيقة والكمال دون غيره؛ إذ كل ما سواه يقبل التفريق والتبعيض، .هو سبحانه الصمد الذي يجب له ذلك، ويمتنع عليه ضد ذلك من الافتراق.

وأما كون الصمد يتضمن معنى الاجتماع، وأنه مصمت، ونحو ذلك يقتضي تعدد الصفات؛ إذ الاجتماع لا يكون إلا فيما له عدد، فلو لم يكن منه وله صفات تقتضي التعدد لامتنع أن يقال له: صمد أو مصمت، أو يكون التصمد يقتضي معنى الاجتماع، فاسم الصمد بأي شيء فسر يوجب وجود صفات واجتماعها له، والدليل على ذلك أن غاية ما يفسرونه به من نفي الصفات أنه هو المصمود إليه، كما قال القرطبي: «الخلق كلهم متوجهون إلى الله ومجتمعون بجملتهم في قضاء حوائجهم وطلبها من الله، فهو الصمد على الإطلاق، والقائم بسد مفاقر الخلق».

[ ص: 599 ] فيقال: كون الخلق يقصدونه ويسألونه هذا أمر حسي؛ إذ القصد والسؤال قائم بهم، فهو لا يستحق الاسم بمجرد فعل غيره، بحيث لو قدر أنهم لم يسألوه لم يكن صمدا، بل لا بد أن يقال: هو المستحق لذلك في نفسه، كما تقدم عن الحليمي وغيره.

وأيضا فإن كونهم يقصدونه ويحتاجون إليه يقتضي أمرا ثبوتيا في ذاته؛ لأن الأمور العدمية تمتنع أن تكون مقصودة أو قاضية للحوائج، فعلم أن كونه صمدا بمعنى مقصود مصمود إليه يقتضي ثبوت أمور وجودية بها يستحق أن يكون صمدا، وبها أمكن أن يكون مقصودا معطيا وليس ذلك لمجرد موجود، وإلا لوجب أن يكون كل موجود هو الصمد، ولا لمجرد أمر يتصف به المخلوق؛ لأنه لو كان هو الصمد لمعنى يقوم بالمخلوق لكان المخلوق هو الصمد أيضا، وقد بينا أن قوله: هو الصمد، يبين أنه المستحق لهذا الاسم على الكمال والحقيقة، وأيضا فلو فرض أنه صمد وغيره [ ص: 600 ] صمد فغيره لم يكن صمدا إلا بأمور وجودية أيضا، فهو أحق بأن لا يكون صمدا إلا بأمور وجودية لا عدمية؛ إذ هو أحق بالكمال من كل موجود، فعلم أن الصمدية توجب أمورا وجودية على غاية الكمال؛ ولهذا فسر الصمد بأنه الكامل في كل شيء، كما قيل: العظيم الذي كمل في عظمته، والحليم الذي كمل في حلمه، والغني الذي كمل في غناه، والجبار الذي كمل في جبروته، والعالم الذي كمل في علمه، والحكيم الذي كمل في حكمته، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله تعالى، هذه صفته التي لا تنبغي إلا له، وقد تقدم ذكر ذلك في تفسير الوالبي علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.

ومعلوم أن هذه صفات متعددة، ونفاة الصفات يسمون ذلك تركيبا وأجزاء، ويقولون: إن البارئ منزه عن التركيب والأجزاء، ونحو ذلك، فعلم أن الاسم يدل على ثبوت ما ينفونه.

وكذلك من قال: إنه لا يرى بعضه دون بعض، أو لا يحجب العباد عنه حجب ونحو ذلك؛ لأن ذلك عنده تجسيم وتركيب [ ص: 601 ] وتبعيض، فهذا الاسم لا يدل على قوله، بل ينفي قوله؛ لأن قوله: الصمد المصمت، يقتضي الاجتماع الذي ينفيه هذا السالب وينفي جواز التفرق عليه، وهذا السالب يقول: لا يوصف باجتماع ولا افتراق، والغير إن نفى الافتراق لم ينف الاجتماع الواجب له.

قال الرازي: «الفصل الخامس: في لفظ اللقاء، قال الله تعالى: الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [البقرة: 46] ».

التالي السابق


الخدمات العلمية