الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإن حلف لا يأكلن سمنا ، فأكل سويقا ، قد لت بسمن ، وأوسع حتى يستبين فيه طعمه ، ويرى مكانه حنث ، وكذلك كل شيء فيه سمن يوجد طعمه ، ويستبين فيه ، وإن كان لا يوجد طعمه ، ولا يرى مكانه لم يحنث ; لأنه عقد يمينه [ ص: 183 ] على أكل عين السمن ، فلا بد من قيام عينه عند الأكل ليحنث وقيام عين المأكول بذاته أو طعمه ، فإذا كان يرى مكانه ، ويستبين فيه طعمه ، فقد علمنا وجود شرط حنثه ، زاد هشام في نوادره أن يكون بحال يمكن عصر السمن ، فأما إذا كان لا يرى مكانه ، ولا يستبين طعمه فيه ، فقد صار مستهلكا فيه ، ولم يذكر في الكتاب ما إذا عقد اليمين على مائع فاختلط بمائع آخر من جنسه ، أو من غير جنسه ، وذكر في النوادر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إذا حلف لا يشرب لبنا ، فصب الماء في اللبن وشربه ، فإن كان اللون فيما شرب لون اللبن ، ويوجد طعمه ، وهو الغالب فيحنث به ، وإن كان اللون لون الماء فيه ، علمنا أن اللبن مغلوب مستهلك ، فلا يحنث به ، ألا ترى أنه يقال للأول : لبن مغشوش ، وللثاني ماء خالطه لبن ، وهكذا ذكر في نسخ الأصل ، وعن محمد رحمه الله تعالى أنه يعتبر الغلبة من حيث القلة والكثرة ; لأن القليل لا يظهر في مقابلة الكثير ، وإن كانا سواء لم يحنث في القياس للشك والتردد ، وفي الاستحسان هو حانث ; لأن ما حلف عليه لم يصر مغلوبا بما سواه ، وإن حلف لا يشرب لبن هذه البقرة ، فخلطه بلبن بقرة أخرى ، فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى هذا والأول سواء ; لأن المغلوب في حكم المستهلك ، سواء كان الغالب من جنسه ، أو من خلاف جنسه ، وعند محمد رحمه الله تعالى يحنث هنا على كل حال ; لأن الشيء يكثر بجنسه ، ولا يصير مستهلكا به .

ولو حلف لا يأكل هذه التمرة ، فاختلطت بتمر فأكل ذلك التمر كله حنث ; لأنه قد أكل تلك التمرة حقيقة ، فإنه يأكل تمرة تمرة ، وجهله بما حلف عليه لا يمنع حنثه ، وإن حلف لا يأكل شعيرا ، فأكل حنطة فيها شعير حبة حبة حنث ; لأنه قد أكل المحلوف عليه بيقين ، وهذا بخلاف ما سبق من السمن ، إذا كان يرى مكانه في السويق ; لأن هناك يأكل الكل جملة ، فما يأكله من السمن مستهلك إذا كان لا يرى مكانه ، وهنا إنما يأكل حبة حبة ، فإذا أكل حبة الشعير وحدها ، فقد وجد شرط الحنث ، حتى إذا كانت يمينه على الشراء لم يحنث ; لأنه يشتري الكل جملة ، ومشتري الحنطة لا يسمى مشتريا للشعير ، وإن كان فيها حبات الشعير ; لأن بائعها لا يسمى بائع الشعير ، وإن حلف لا يأكل شحما ، فإن أكل شحم البطن ، فهو حانث ، وإن أكل لحما يخالطه شحم البطن ، فهو حانث ، وإن أكل لحما يخالطه شحم ، يعني شحم الظهر لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وهو حانث في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وذكر الطحطاوي قول محمد مع قول أبي حنيفة وجه قول أبي يوسف رضوان الله عليهم أجمعين [ ص: 184 ] أن شحم الظهر شحم بذاته ، ويصلح لما يصلح له الشحم ، فكان كشحم البطن . قال الله تعالى { : ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما . } والمستثنى من جنس المستثنى منه هو الحقيقة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : هذا لحم عند الناس ، ألا ترى أنه لو حلف لا يأكل لحما يحنث بهذا ، وكذلك في العادة يقال في العربية : سمين اللحم وبالفارسية فربهن ، والدليل عليه أن يمينه لو كان على الشراء لم يحنث بهذا ، إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يفرق بما ذكرنا ، أن الشراء لا يتم به وحده ، بخلاف الأكل ، ثم سمين اللحم يستعمل استعمال اللحوم في اتخاذ القلايا والباحات كاستعمال الشحوم ، وقد بينا أن الأيمان لا تنبني على ألفاظ القرآن ، وفي الآية استثناء الحوايا أيضا ، وما اختلط بعظم واحد لا يقول : أن مخ العظم يكون شحما .

التالي السابق


الخدمات العلمية