الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        [ ص: 254 ] 5256 - حدثنا خلاد بن محمد الواسطي ، قال : ثنا محمد بن شجاع ، عن يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا سعيد بن أبي عروبة ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثل حديث أحمد بن داود ، وزاد : إنه كان تزوجهن في الجاهلية .

                                                        فكان تزويج غيلان للنسوة اللاتي كن عنده حين أسلم ، في وقت كان تزوج ذلك العدد جائزا ، والنكاح عليه ثابت .

                                                        ولم يكن للواحدة حينئذ من ثبوت النكاح إلا ما للعاشرة مثله ، ثم أحدث الله عز وجل حكما آخر ، وهو تحريم ما فوق الأربع ، فكان ذلك حكما طارئا ، طرأت به حرمة حادثة على نكاح غيلان ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم لذلك أن يمسك من النساء العدد الذي أباحه الله ، ويفارق ما سوى ذلك ، وجعل كرجل له أربع نسوة ، فطلق إحداهن ، فحكمه أن يختار منهن واحدة ، فيجعل ذلك الطلاق عليها ، ويمسك الأخرى .

                                                        وكذلك أبو حنيفة ، وأبو يوسف رحمهما الله يقولان في هذا .

                                                        فأما من تزوج عشر نسوة بعد تحريم الله ما جاوز الأربع في عقدة واحدة ، فإنه إنما عقد النكاح عليهن عقدا فاسدا ، فلا يثبت بذلك له نكاح .

                                                        ألا ترى أنه لو تزوج ذات رحم محرم منه في دار الحرب ، وهو مشرك ، ثم أسلم ، أنها لا تقر تحته ، وإن كان عقده لذلك كان في دار الحرب وهو مشرك .

                                                        فلما كان هذا يرد حكمه فيه إلى حكم نكاحات المسلمين فيما يعقدون في دار الإسلام ، كان كذلك أيضا حكمه في العشر نسوة اللاتي تزوجهن وهو مشرك في دار الحرب ، يرد حكمه في ذلك إلى حكم المسلمين في نكاحاتهم .

                                                        فإن كان تزوجهن في عقدة واحدة ، فنكاحهن باطل ، وإن كان تزوجهن في عقد متفرقة جاز نكاح الأربع الأول منهن ، وبطل نكاح سائرهن .

                                                        فإن قال قائل : فقد ترك أبو حنيفة ، وأبو يوسف قولهما ، في شيء قالاه في هذا المعنى .

                                                        وذلك أنهما قالا في رجل من أهل الحرب سبي وله أربع نسوة ، وسبين معه : إن نكاحهن كلهن قد فسد ، ويفرق بينه وبينهن .

                                                        قال : فقد كان ينبغي - على ما حملا عليه حديث غيلان - أن يجعلا له أن يختار منهن اثنين فيمسكهما ، ويفارق الاثنتين الباقيتين ؛ لأن نكاح الأربع قد كان كله ثابتا صحيحا ، وإنما طرأ الرق عليه ، فحرم عليه ما فوق الاثنتين ، كما أنه لما طرأ حكم الله في تحريم ما فوق الأربع ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غيلان باختيار أربع من نسائه ، وفراق سائرهن .

                                                        قيل له : ما خرج أبو حنيفة ، وأبو يوسف رحمهما الله بما ذكرت عن أصلهما ، ولكنهما ذهبا إلى ما قد خفي عليك .

                                                        وذلك أن هذا كان تزوج الأربع في وقت ما تزوجهن بعد ما حرم على العبد تزوج ما فوق الاثنتين .

                                                        [ ص: 255 ] فإذا تزوج ، وهو حربي في دار الحرب ما فوق اثنتين ، ثم سبي وسبين معه ، رد حكمه في ذلك إلى حكم تحريم قد كان قبل نكاحه ، فصار كأنه تزوجهن في عقده بعد ما صار رقيقا ، وهو في ذلك ، كرجل تزوج صبيتين صغيرتين ، فجاءت امرأة فأرضعتهما معا ، فإنهما تبينان منه جميعا ، ولا يؤمر بأن يختار إحداهما فيمسكها ، ويفارق الأخرى ؛ لأن حرمة الرضاع طرأت عليه بعد نكاحه إياهما .

                                                        وكذلك الرق الطارئ على النكاح الذي وصفنا ، حكمه حكم هذا الرضاع الذي ذكرنا .

                                                        وهما جميعا مفارقان لما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في غيلان ابن سلمة ؛ لأن غيلان لم يكن حرمة الله لما فوق الأربع ، تقدمت نكاحه ، فيرد حكم نكاحه إليها ، وإنما طرأت الحرمة على نكاحه بعد ثبوته كله ، فردت حرمة ما حرم عليه من ذلك إلى حكم حادث بعد النكاح ، فوجب له بذلك الخيار ، كما يجب له في الطلاق الذي ذكرنا .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية