الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        4385 - حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا شعيب بن الليث ، قال : ثنا الليث ، عن بكير ، عن أبي مرة مولى عقيل ، عن حكيم بن عقال ، قال : سألت عائشة : ( ما يحرم علي من امرأتي إذا حاضت ؟ ) قالت : فرجها .

                                                        فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار .

                                                        وأما وجهه من طريق النظر ، فإنا رأينا المرأة قبل أن تحيض ، لزوجها أن يجامعها في فرجها ، وله منها ما فوق الإزار ، وما تحت الإزار أيضا .

                                                        ثم إذا حاضت ، حرم عليه الجماع في فرجها ، وحل له منها ما فوق الإزار باتفاقهم .

                                                        واختلفوا فيما تحت الإزار على ما ذكرنا ، فأباحه بعضهم ، فجعل حكمه حكم ما فوق الإزار ، ومنع منه بعضهم ، فجعل حكمه حكم الجماع في الفرج .

                                                        فلما اختلفوا في ذلك وجب النظر ، لنعلم أي الوجهين هو أشبه به ، فيحكم له بحكمه ؟

                                                        [ ص: 39 ] فرأينا الجماع في الفرج ، يوجب الحد والمهر والغسل ، ورأينا الجماع فيما سوى الفرج لا يوجب من ذلك شيئا ، ويستوي في ذلك حكم ما فوق الإزار ، وما تحت الإزار .

                                                        فثبت بما ذكرنا أن حكم ما تحت الإزار أشبه بما فوق الإزار منه بالجماع في الفرج .

                                                        فالنظر على ذلك أن يكون كذلك هو في حكم الحائض ، فيكون حكمه حكم الجماع فوق الإزار ، لا حكم الجماع في الفرج .

                                                        وهذا قول محمد بن الحسن رحمة الله عليه ، وبه نأخذ .

                                                        قال أبو جعفر رضي الله عنه : ثم نظرت بعد ذلك في هذا الباب ، وفي تصحيح الآثار فيه ، فإذا هي تدل على ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمة الله عليه ، لا على ما ذهب إليه محمد .

                                                        وذلك أنا وجدناها على ثلاثة أنواع :

                                                        فنوع منها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حيض فوق الإزار ، فلم يكن في ذلك دليل على منع المحيض من المباشرة تحت الإزار ، لما قد ذكرناه في موضعه من هذا الباب .

                                                        ونوع آخر منها ، وهو ما روى عمير مولى عمر ، عن عمر رضي الله تعالى عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على ما ذكرناه في موضعه .

                                                        فكان في ذلك دليل على المنع من جماع الحيض تحت الإزار ؛ لأن ما فيه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكره ما فوق الإزار ، فإنما هو جواب لسؤال عمر رضي الله تعالى عنه إياه : ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا ؟ فقال : له ما فوق الإزار ، فكان ذلك جواب سؤاله ، لا نقصان فيه ولا تقصير .

                                                        ونوع آخر ما هو ، ما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه ، على ما قد ذكرناه عنه ، فذلك مبيح لإتيان الحيض دون الفرج ، وإن كان تحت الإزار .

                                                        فأردنا أن ننظر أي هذين النوعين تأخر عن صاحبه ، فنجعله ناسخا له ؟

                                                        فنظرنا في ذلك ، فإذا حديث أنس فيه إخبار عما كانت اليهود عليه ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بخلافهم ، قد روينا ذلك ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب ( الجنائز ) ، وكذلك أمره الله تعالى في قوله : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده .

                                                        فكان عليه اتباع من تقدمه من الأنبياء حتى يحدث له شريعة تنسخ شريعته .

                                                        فكان الذي نسخ ما كانت اليهود عليه من اجتناب كلام الحائض ومؤاكلتها والاجتماع معها في بيت ، هو ما هو في حديث أنس رضي الله عنه ، لا واسطة بينهما .

                                                        ففي حديث أنس رضي الله عنه هذا إباحة جماعها فيما دون الفرج .

                                                        [ ص: 40 ] وكان الذي في حديث عمر الإباحة لما فوق الإزار ، والمنع ما تحت الإزار .

                                                        فاستحال أن يكون ذلك متقدما لحديث أنس رضي الله عنه إذا كان حديث أنس رضي الله عنه هو الناسخ لاجتناب الاجتماع مع الحائض ، ومؤاكلتها ومشاربتها .

                                                        فثبت : أنه متأخر عنه ، وناسخ لبعض الذي أبيح فيه .

                                                        فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمة الله عليه من هذا بتصحيح الآثار ، وانتفى ما ذهب إليه محمد رحمة الله عليه .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية