الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              التنبيه الثالث والأربعون :

                                                                                                                                                                                                                              قال العلماء : «لم يكن بكاء موسى حسدا ، معاذ الله ، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين ، فكيف بمن اصطفاهم الله تعالى ، بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم والمستلزمة لتنقيص أجره ، لأن لكل نبي أجر من تبعه ، ولهذا كان من اتبعه في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي جمرة : «قد جعل الله تعالى في قلوب أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الرحمة والرأفة لأمتهم ، وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسئل عن بكائه فقال : «هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أخذوا من رحمة الله تعالى أوفر نصيب ، فكانت الرحمة في قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم . فلأجل ما كان لموسى عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته لأن هذا وقت إفضال وجود وكرم .

                                                                                                                                                                                                                              فرجا لعله يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله تعالى أمته ببركة هذه الساعة . فإن قيل :

                                                                                                                                                                                                                              كيف يكون هذا وأمته لا تخلو من قسمين : قسم مات على الإيمان ، وقسم مات على الكفر فالذي مات على الإيمان لا بد له من دخول الجنة والذي مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدا ، فبكاؤه لأجل ما ذكرتم لا يسوغ إذ إن الحكم فيه قد مر ونفذ . قيل في الجواب : وكذلك قدر الله عز وجل قدره على قسمين ، كما شاءت حكمته ، فقدر قدرا وقدر أن ينفذ على كل الأحوال وقدر قدرا وقدر ألا ينفذ ، ويكون وقوعه بسبب دعاء أو صدقة أو غير ذلك» . [ ص: 125 ]

                                                                                                                                                                                                                              ومثاله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوات الثلاث لأمته وهي : ألا يظهر عليهم عدو من غيرهم ، وألا يهلكهم بالسنين ، فأعطيهما ودعا بألا يجعل بأسهم بينهم ، فاستجيب في الاثنتين ولم يستجب له في الثالثة ، وقيل له : هذا أمر قدرته أي أنفذته ، فكانت الاثنتان من القدر الذي قدره الله تعالى وقدر ألا ينفذه بسبب الدعاء وكانت دعوته الثالثة من القدر الذي قدره الله تعالى وقدر إنفاذه على كل الأحوال لا يرده راد . وسيأتي لهذا مزيد إيضاح .

                                                                                                                                                                                                                              فلأجل ما ركب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي قدره الله تعالى وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى لأنه وقت أسري فيه بالحبيب ليخلع عليه خلع القرب والفضل العميم ، فطمع الكليم لعل أن يلحق لأمته نصيبا» .

                                                                                                                                                                                                                              وبوجه آخر وهو البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وإدخال السرور عليه يشهد لذلك بكاؤه حين ولى النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يبعد عنه لكي يسمعه ، لأنه لو كان البكاء خاصا بموسى لم يكن ليبكي حتى يبعد عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمعه لأن البكاء والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ، فيه شيء من التهوين عليه .

                                                                                                                                                                                                                              فلما أن كان المراد بذلك ما يصدر عن البشارة له صلى الله عليه وسلم بسبب البكاء بكى والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه ، والبشارة التي يتضمنها البكاء هي قول موسى عليه الصلاة والسلام للذي هو أكثر الأنبياء اتباعا : «إن الذي يدخل الجنة من أمة محمد أكثر ممن يدخلها من أمتي» .

                                                                                                                                                                                                                              «وقد وقع من موسى عليه السلام من العناية بهذه الأمة في أمر الصلاة ما لم يقع لغيره ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، مرفوعا : «كان موسى أشدهم علي حين مررت به وخيرهم حين رجعت إليه» . وفي حديث أبي سعيد : فأقبلت راجعا فمررت بموسى ونعم الصاحب كان لكم» .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية