الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : قال في "الروض" :

                                                                                                                                                                                                                              قوله صلى الله عليه وسلم : "أحبوا الله من كل قلوبكم" ،

                                                                                                                                                                                                                              يريد أن تستغرق محبة الله تعالى جميع أجزاء القلب ، فيكون ذكره وعمله خارجا من قلبه خالصا لله . وتقدم الكلام على محبته لعبده ، ومحبة العبد لربه في اسمه صلى الله عليه وسلم : "حبيب الله" .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله صلى الله عليه وسلم : "ولا تملوا كلام الله وذكره . فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي"

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي : الهاء في قوله : (فإنه ) لا يجوز أن تكون عائدة على كلام الله تعالى ، ولكنها [ ص: 333 ] ضمير الأمر والحديث ، فكأنه قال : إن الحديث من كل ما يخلق الله يختار ، فالأعمال إذا كلها من خلق الله ، قد اختار منها ما شاء ، قال سبحانه : وربك يخلق ما يشاء ويختار

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : "قد سماه الله خيرته من الأعمال" ، يعني الذكر وتلاوة القرآن [لقوله سبحانه :

                                                                                                                                                                                                                              "ويختار" فقد اختاره من الأعمال] . وقوله : "والمصطفى من عباده" : أي سمى المصطفى من عباده بقوله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [الحج 75] ويجوز أن يكون معناه : المصطفى من عباده ، أي العمل الذي اصطفاه منهم واختاره من أعمالهم ، فلا تكون "من" على هذا للتبعيض ، إنما تكون لابتداء الغاية ، لأنه عمل استخرجه منهم لتوفيقه إياهم ، والتأويل الأول أقرب مأخذا . والله أعلم بما أراد رسوله" .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في أول الخطبة : "إن الحمد لله أحمده" ، هكذا برفع الدال [من قوله : الحمد لله] وجدته مقيدا مصححا عليه ، وإعرابه ليس على الحكاية ، ولكن على إضمار الأمر ، كأنه قال : "إن الأمر الذي أذكره" ، حذف الهاء العائدة على الأمر كي لا يقدم شيئا في اللفظ من الأسماء على قوله : "الحمد لله" . وليس تقديم "إن" في اللفظ من باب تقديم الأسماء لأنها حرف مؤكد لما بعده ، مع ما في اللفظ من التحري للفظ القرآن والتيمن به ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : اختلف في تسمية اليوم بذلك ، مع أنه كان اتفاقا يسمى في الجاهلية :

                                                                                                                                                                                                                              "العروبة" - بفتح المهملة وضم الراء وبالموحدة- قلت : قال أبو جعفر النحاس في كتابه :

                                                                                                                                                                                                                              "صناعة الكتابة" : لا يعرفه أهل اللغة إلا بالألف واللام إلا شاذا ، ومعناه : اليوم المبين المعظم ، من أعرب : إذا بين . فقيل : سمي بذلك لأن الخلائق جمعت فيه ، ذكره أبو حذيفة البخاري في "المبتدأ" عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف . وقيل : لأن خلق آدم جمع فيه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن أبي حاتم عن سلمان رضي الله عنه قال :

                                                                                                                                                                                                                              قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدري ما يوم الجمعة؟" قلت : الله ورسوله أعلم . قالها ثلاث مرات . قال في الثالثة : "هو اليوم الذي جمع فيه أبوكم آدم" .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث ، وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، رواه ابن أبي حاتم بإسناد قوي ، والإمام أحمد مرفوعا بإسناد ضعيف . قال الحافظ : "وهذا أصح . ويليه ما رواه عبد الرزاق عن ابن سيرين بسند صحيح إليه ، في قصة تجميع الأنصار ، مع أسعد بن زرارة . وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة ، صلى بهم فيه وذكرهم ، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه" . وقيل : "سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه" . وبهذا جزم ابن حزم فقال : إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية ، وإنما كان يسمى العروبة . وفيه نظر ، فقد قال أهل اللغة : إن العروبة اسم قديم كان للجاهلية ، وقالوا : الجمعة هو يوم العروبة . والظاهر أنهم غيروا الأيام السبعة بعد أن كانت : أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار . [ ص: 334 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقال الجوهري : وكانت العرب تسمي يوم الاثنين "أهون" في أسمائهم القديمة . فهذا يشعر بأن لها أسماء ، وهي هذه المتعارفة إلى آخرها الآن . وقيل : إن أول من سمى العروبة "الجمعة" كعب بن لؤي ، فيحتاج من قال إنهم غيروها إلى الجمعة ، فأبقوها على تسمية العروبة إلى نقل خاص .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : تقدم أن صلاة الجمعة صلتها الصحابة بالمدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فقيل : ذلك بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم ، لما رواه الدارقطني عن ابن عباس ، قال : أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر ، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بمكة ولا [يبدي] لهم ،

                                                                                                                                                                                                                              فكتب إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه : "أما بعد ، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم ، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين" .

                                                                                                                                                                                                                              قال : فأول من جمع مصعب بن عمير ، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فجمع عند الزوال من الظهر ، وأظهر ذلك . وفي سنده أحمد بن محمد بن غالب الباهلي ، وهو متهم بالوضع . قال في "الزهر" : "والمعروف في هذا المتن الإرسال ، رويناه في كتاب "الأوائل" لأبي عروبة الحراني" قال : "حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا ابن جريج عن سليمان بن موسى ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب به" . وقيل باجتهاد الصحابة ، روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن تنزل الجمعة ، فقالت الأنصار : إن لليهود يوما يجمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلموا فلنجعل يوما نجمع فيه فنذكر الله ونصلي ونشكر . فجعلوه يوم العروبة ، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة ، فصلى بهم يومئذ ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [الجمعة 9] قال الحافظ : وهذا وإن كان مرسلا ، فله شاهد بإسناد حسن ، رواه أبو داود وابن ماجه ، وصححه ابن خزيمة وغير واحد ، من حديث كعب بن مالك قال : "كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة" ، الحديث ، وقد تقدم ، فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة باجتهاد ، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة ، فلم يتمكن من إقامتها كما في حديث ابن عباس والمرسل بعده ، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة كما حكاه ابن إسحاق وغيره ، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بخبر نبي البيان والتوفيق . وقيل : الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه ، والإنسان إنما خلق للعبادة ، فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه ، وكان الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها ، فناسب أن يشكر الله على ذلك بالعبادة فيه ، ولهذا تتمة تأتي في الخصائص إن شاء الله تعالى . [ ص: 335 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية