الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : قال في "الروض" : "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا المدينة ، لتذهب عنهم وحشة الغربة ، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ، ويشد أزر بعضهم ببعض ، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [الأنفال 75] أعني في الميراث ، ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة ، يعني في التواد وشمول الدعوة" .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : اختلف في ابتدائها ، فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر ، وقيل بتسعة ، وقيل وهو يبني المسجد ، وقيل قبل بنائه ، وقيل بسنة ، وقيل بثلاثة أشهر وقيل بدر ، وتقدم عن أنس بن مالك أن ذلك كان في داره ، وذكر أبو سعد النيسابوري في "الشرف" أن ذلك كان في المسجد . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنكر الواقدي مؤاخاة سلمان لأبي الدرداء؛ لأن سلمان إنما أسلم بعد وقعة أحد ، وأول مشاهده الخندق . وأجاب الحافظ بأن التاريخ المذكور [هو] للأخوة الثانية ، وهو ابتداء الأخوة ، واستمر صلى الله عليه وسلم يجددها بحسب من يدخل في الإسلام ويحضر إلى المدينة . [ ص: 368 ]

                                                                                                                                                                                                                              وليس باللازم أن تكون المؤاخاة وقعت وقعة واحدة حتى يرد هذا التعقيب . وبما أجاب به الحافظ يجاب به عن مؤاخاة أبي ذر والمنذر بن عمرو ، وعن مؤاخاة حذيفة وعمار ، وعن مؤاخاة جعفر ومعاذ بن جبل ، ويقال بأن معاذا أرصد لمؤاخاة جعفر حتى يقدم .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : نقل محمد بن عمر ، عن الزهري أنه أنكر كل مؤاخاة وقعت بعد بدر ، ويقول :

                                                                                                                                                                                                                              قطعت بدر المواريث . قال الحافظ رحمه الله تعالى : وهذا لا يدفع المؤاخاة من أصلها ، وإنما يدفع المؤاخاة المخصوصة التي كانت عقدت بينهم ليتوارثوا بها .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : أنكر الحافظ أبو العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين ، وخصوصا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه . قال : لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا ، ولتتألف قلوب بعضهم على بعض ، فلا معنى لمؤاخاته لأحد ، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : "وهذا رد للنص بالقياس ، وإغفال عن حكمة المؤاخاة؛ لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوة ، فواخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ، ويستعين الأعلى بالأدنى ، وبهذا تظهر حكمة مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ، لأنه هو الذي كان يقوم بعلي من عهد الصبا قبل البعثة واستمر ، وكذلك مؤاخاة حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة؛ لأن زيدا مولاهم ، فقد ثبتت أخوتهما وهما من المهاجرين ، وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيدا قال : "إن ابنة حمزة ابنة أخي" . وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود ، وهما من المهاجرين ، وأخرجه الضياء المقدسي في "المختارة" ، وابن تيمية يصرح بأن أحاديث "المختارة" أصح وأقوى من أحاديث "المستدرك" ، قلت : يأتي الكلام مبسوطا على أخوة النبي صلى الله عليه وسلم في ترجمة علي رضي الله عنه عند ذكر تراجم العشرة إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              السادس :

                                                                                                                                                                                                                              روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان عن شعبة بن التوأم- بفتح الفوقية والهمزة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا حلف في الإسلام" ،

                                                                                                                                                                                                                              زاد شعبة بن التوأم : "ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية" . انتهى . "وأيما- وفي لفظ : كل- حلف كان في [ ص: 369 ] الجاهلية لم يزده الإسلام إلا حدة وشدة ، وما يسرني أن لي حمر النعم وأني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري في الكفالة وفي الاعتصام ، ومسلم في الفضائل ، وأبو داود في الفرائض عن عاصم بن سليمان الأحول قال : "قلت لأنس بن مالك : أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا حلف في الإسلام؟ قال : قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري" .

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبراني : ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي الأحاديث السابقة في نفيه ، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة ، وكانوا يتوارثون به ، ثم نسخ من ذلك الميراث ، وبقي ما لم يبطله القرآن ، وهو التعاون على الحق والنصر ، والأخذ على يد الظالم ، كما قال ابن عباس : "إلا النصر والنصيحة" ، ويوصي به ، فقد ذهب الميراث .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي : قال ابن عيينة : حالف بينهم : أي آخى بينهم ، يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الحلف في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده ، وحلف الجاهلية جار على ما كانوا يتواضعونه بينهم ، فبطل منه ما خالف حكم الإسلام ، وبقي ما عدا ذلك على حاله .

                                                                                                                                                                                                                              والحلف- بكسر الحاء المهملة وسكون اللام بعدها فاء ، قال في "النهاية" : أصله المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق ، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات ، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام

                                                                                                                                                                                                                              بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا حلف في الإسلام" .

                                                                                                                                                                                                                              وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذلك الذي

                                                                                                                                                                                                                              قال فيه صلى الله عليه وسلم : "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" ،

                                                                                                                                                                                                                              يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق [وبذلك يجتمع الحديثان ، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام ، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام] والله سبحانه وتعالى أعلم . [ ص: 370 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية