الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الثالث : اختلف في السنة التي فيها شرع [الأذان] . قال الحافظ : "والراجح أنه كان في السنة الأولى ، وقيل : بل في الثانية" .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : قول ابن عمر : فقال عمر : "أو لا تبعثون رجلا منكم ينادي بالصلاة" .

                                                                                                                                                                                                                              فقال [ ص: 358 ]

                                                                                                                                                                                                                              رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا بلال قم فناد بالصلاة" .

                                                                                                                                                                                                                              قال النووي : هذا الدعاء دعاء إلى الصلاة غير الأذان ، وكان قد شرع قبل الأذان . قال الحافظ : والظاهر أن إشارة عمر بإرسال رجل ينادي بالصلاة كان عقب المشاورة فيما يفعلونه ، وأن رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك . وكان اللفظ الذي ينادي به بلال هو "الصلاة جامعة" ، كما رواه ابن سعد ، وسعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب مرسلا . وقد وقع للقاضي أبي بكر العربي هنا كلام غير محرر طعن فيه في صحة حديث ابن عمر الثابت في الصحيح" وقد بسط الحافظ الكلام على رده .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : روى الطبراني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه رأى الأذان ، وسنده واه ، ووقع في "الوسيط" للغزالي أنه رآه بضعة عشر رجلا . وعبارة الجيلي في "شرح التنبيه" : أربعة عشر رجلا ، وأنكره ابن الصلاح [فقال : لم أجد هذا بعد إمعان البحث] ثم النووي [في تنقيحه فقال : هذا ليس بثابت ولا معروف ، وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه] ، ونقل مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة عشر رجلا من الأنصار . قال الحافظ : "الحق أنه لا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد ، وقصة عمر جاءت في بعض الطرق" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحافظ ابن أبي أسامة عن كثير بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء ، فسمعه عمر وبلال ، فسبق عمر بلالا ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء بلال ، فقال : "سبقك بها عمر" .

                                                                                                                                                                                                                              وسنده واه جدا ، في سنده سعيد بن سنان ، قال الذهبي في "المغني" : "متروك متهم" .

                                                                                                                                                                                                                              السادس : وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة ، منها للطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى الله تعالى إليه : [ ص: 359 ] بالأذان ، فنزل به ، فعلمه بلالا ، وفي سنده طلحة بن زيد الرقي ، هالك . قال الحافظ أبو الفرج بن رجب : هذا حديث موضوع بهذا الإسناد بغير شك ، قلت : وبغيره أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              ولابن شاهين عن علي بن أبي طالب : "علم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الأذان ليلة أسري به ، وفرضت عليه الصلاة" ،

                                                                                                                                                                                                                              وفي سنده حصين بن مخارق ، وهو وضاع . وللدارقطني في "الأفراد" ، وعن أنس رضي الله عنه "أن جبريل أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بالأذان حين فرضت الصلاة" ، وسنده ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                              ولابن مردويه من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا : "لما أسري بي أذن جبريل ، فظنت الملائكة أنه يصلي بهم ، فقدمني فصليت" ، وفي سنده من لا يعرف . وقال الذهبي في مختصر الإمام ، أصل الإلمام لابن دقيق العيد : "هذا حديث منكر ، بل موضوع" . وللبزار وغيره من حديث قال : "لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الأذان ، أتاه جبريل بدابة يقال لها البراق فركبها [حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن ، فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب ، فقال : يا جبريل من هذا؟ قال : والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا ، وأن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه ، فقال الملك : الله أكبر ، الله أكبر ، فقيل من وراء الحجاب ، صدق عبدي ، أنا أكبر ، أنا أكبر] ، فذكر بقية الأذان ، وفي آخره : "ثم أخذ الملك بيده فأم أهل السماء . . " وفي إسناده زياد بن المنذر وهو متروك أيضا . وقال ابن معين : عدو الله كذاب . وقال الذهبي : "هذا من وضعه" . وقال ابن كثير : "هذا الحديث الذي زعم السهيلي أنه صحيح هو منكر ، تفرد به زياد بن المنذر الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية من الرافضة وهو [ ص: 360 ] من المتهمين ، ولو كان النبي- صلى الله عليه وسلم- سمعه ليلة الإسراء لأمر به بعد الهجرة" . ولابن شاهين من طريق زياد المذكور ، قال : "قلت لابن الحنفية : كنا نتحدث أن الأذان كان رؤيا ، فقال : هذا والله الباطل ، لكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما عرج به بعث إليه ملك علمه الأذان" . قال [الحافظ ابن حجر] : "هذا باطل ، ويمكن على تقدير صحته أن يحمل على تعدد الإسراء ، فيكون ذلك وقع بالمدينة ، وأما قول القرطبي : لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه ، ففيه نظر لقوله في أوله : "لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان" ، وكذا قول المحب الطبري : يحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللغوي وهو الإعلام ، [وهذا] فيه نظر أيضا لتصريحه بكيفيته المشروعة فيه" .

                                                                                                                                                                                                                              ولابن شاهين من طريق زياد أيضا عن الباقر عن أبيه عن أبي رافع عن علي رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : "يا علي إن الله علمني الصلاة والأذان ، أتاني جبريل بالبراق" ،

                                                                                                                                                                                                                              وزياد [راويه] كذاب . ولأبي الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "نزل الأذان على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع فرض الصلاة" ، وفي سنده عبد العزيز بن مروان ، وهو تالف . قال الحافظ : "والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث ، وقد جزم ابن المنذر "أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بغير أذان ، منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة ، وإلى أن وقع التشاور في ذلك على ما جاء في حديث عبد الله بن عمر ، ثم في حديث عبد الله بن زيد" - انتهى كلام ابن المنذر . وقد حاول السهيلي الجمع بينهما فتكلف وتعسف ، والأخذ بما صح أولى ، فقال بانيا على صحته الحكم في مجيء الأذان على لسان الصحابي في المنام فقصه ، فوافق ما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- سمعه فقال : "إنها لرؤيا حق" ، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أريه في السماء أن يكون سنة في الأرض ، وقوى ذلك عنده موافقته رؤيا عمر للأنصاري ، لأن السكينة تنطق على لسان عمر" . . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              ويؤخذ منه عدم الاكتفاء برؤيا عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها . ولكن قد يقال : فلم اقتصر على عمر؟ فيمكن أن يجاب : ليصير في معنى الشهادة . وقد جاء في رواية ضعيفة سبقت ما ظاهره أن بلالا أيضا رأى ، لكنها مؤولة ، فإن لفظها : "سبقك بها عمر" ، يحمل المراد بالسبق على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد .

                                                                                                                                                                                                                              السابع : قال السهيلي : "اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الأذان على لسان غير النبي [ ص: 361 ] - صلى الله عليه وسلم- من المؤمنين ، لما فيه من التنويه من الله تعالى بعبده والرفع لذكره ، فلأن يكون ذلك على لسان غيره أنوه به وأفخم لشأنه ، وهذا معنى بين ، فإن الله تعالى يقول : ورفعنا لك ذكرك [سورة الشرح ، الآية : 4] ، فمن رفع ذكره أن أشار به على لسان غيره" . انتهى كلام السهيلي- وهذا حسن بديع .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن : من أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو الشيخ من طريق عبد العزيز بن مروان- وهو تالف- عن عبد الله بن الزبير قال : "أخذ الأذان من أذان إبراهيم عليه السلام : وأذن في الناس بالحج [سورة الحج ، الآية : 27] الآية ، قال : "فأذن النبي- صلى الله عليه وسلم-" ، وما رواه أبو نعيم بسند فيه مجاهيل عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما : "أن جبريل نادى بالأذان لآدم عليه السلام حين أهبط من الجنة" .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع : ذكر بعضهم مناسبة اختصاص بلال بالأذان دون غيره ، كونه لما عذب ليرجع عن الإسلام كان يقول : أحد أحد ، فجوزي بولاية الأذان المشتمل على التوحيد من ابتدائه إلى انتهائه .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر : استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد ، ورؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي . وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك ، بأنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بمقتضاها لينظر أيقر على ذلك أم لا ، ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه ، ويؤيد الأول حديث عبيد بن عمير ، أحد كبار التابعين :

                                                                                                                                                                                                                              "أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- : فوجد الوحي قد ورد بذلك ، فما راعه إلا أذان بلال" . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "سبقك بذلك الوحي" .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا أصح كما حكاه الداودي عن ابن إسحاق "أن جبريل أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد بثمانية أيام" .

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر : قيل أن الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة : أن الأذان إعلام للغائبين متكرر ليكون أوصل إليهم ، بخلاف الإقامة فإنها للحاضرين ، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة ، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني عشر : في بيان غريب ما سبق :

                                                                                                                                                                                                                              "بدء" الأذان ، بفتح الموحدة وسكون الدال [المهملة] وبالهمزة ، أي ابتداؤه .

                                                                                                                                                                                                                              "الحين" : الزمان قل أو كثر . [ ص: 362 ]

                                                                                                                                                                                                                              "يتحينون" الصلاة : أي يطلبون حينها .

                                                                                                                                                                                                                              "المواقيت" جمع ميقات : وهو الوقت المضروب للفعل .

                                                                                                                                                                                                                              "الدعوة" : بالفتح : الأذان .

                                                                                                                                                                                                                              "القنع" : بضم القاف وسكون النون : هو البوق- بضم الموحدة- شيء مجوف ينفخ فيه .

                                                                                                                                                                                                                              "الشبور" : بشين معجمة مفتوحة فموحدة مضمومة مشددة وهو البوق .

                                                                                                                                                                                                                              "الناقوس" : آلة من النحاس ، يضرب فيصوت .

                                                                                                                                                                                                                              "حي" على الصلاة : أقبلوا .

                                                                                                                                                                                                                              "الفلاح" : أي الفوز ، أي هلموا إلى طريق النجاة والفوز .

                                                                                                                                                                                                                              "أندى" صوتا منك ، أي أمد وأبعد وأرفع غاية ، وقيل : أحسن وأعذب .

                                                                                                                                                                                                                              "ألقه" عليه : أي علمه إياه .

                                                                                                                                                                                                                              فما "راع" عمر : أي ما شعر عمر ، أي ما أعلمه .

                                                                                                                                                                                                                              "لدي" : بفتح اللام وتشديد التحتية : أي عندي ، وإلي بذلك تابع .

                                                                                                                                                                                                                              "التوقير" : التعظيم .

                                                                                                                                                                                                                              "الحصاص" بحاء مضمومة فصادين مهملتين : الضراط ، وقيل : شدة العدو ، ويفعل ذلك الشيطان لئلا يسمع الأذان فيضطر إلى الشهادة يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                              "الغيلان" : واحدها غول ، والغيلان : جنس من الجن كانت العرب تزعم أنها تتراءى للناس في الفلاة فتتمثل في صور شتى فتغولهم ، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم ، فنفاه صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              بقوله : "لا غول [ولا صفر] "

                                                                                                                                                                                                                              [وقيل قوله : لا غول] ، ليس نفيا [لعين الغول] ووجوده ، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله ، فيكون المعنى بقوله : لا غول أنها لا تستطيع أن تضل أحدا . ومنه الحديث : "إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان" ، أي ادفعوا شرها بذكر الله ، وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها . [ ص: 363 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية