الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              التاسع : في الكلام على قوله تعالى : علمه شديد القوى [النجم : 5] .

                                                                                                                                                                                                                              التبيان : «أخبر تعالى عن وصف من علمه بالوحي أنه مضاد لأوصاف الشيطان معلم الضلالة والغواية ، وهذا نظير قوله تعالى : ذي قوة عند ذي العرش مكين [التكوير : 20] [ ص: 37 ] وفي وصفه بذلك تنبيه على أمور :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو منه وأن ينالوا منه شيئا أو يزيدوا فيه أو ينقصوا منه ، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقربه .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه موال لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له ومواد له وناصر ، كما قال تعالى : فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين [التحريم : 4] الآية . ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه . فهو المهدي المنصور . والله هاديه وناصره .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل ، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : أنه قادر على تنفيذ ما أمر به بقوته فلا يعجز عن ذلك مواد له كما أمر» .

                                                                                                                                                                                                                              السمين : «فاعل علمه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر . قال الماوردي والقرطبي إنه قول الجميع إلا الحسن ، فإنه قال هو الباري تعالى لقوله عز وجل : الرحمن علم القرآن [الرحمن : 1 ، 2] ويكون «ذو مرة» تمام الكلام» .

                                                                                                                                                                                                                              اللباب : «يجوز أن تكون هذه الهاء للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الظاهر ، فيكون المفعول الثاني محذوفا أي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي أي الموحى ، ويجوز أن يكون للقرآن والوحي ، فيكون المفعول الأول محذوفا أي علمه النبي .

                                                                                                                                                                                                                              الإمام الرازي : «الأولى أن يقال الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم ، تقديره علم محمدا شديد القوى جبريل ، ويكون عائدا إلى صاحبكم ، تقديره : ما ضل صاحبكم ، وشديد القوى هو جبريل ، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة ، ثم في قوله : شديد القوى فوائد :

                                                                                                                                                                                                                              الأولى : أن مدح المعلم مدح للمتعلم ، فلو قال : علمه جبريل ولم يصفه ما كان يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية : أن فيه ردا عليهم بحيث قالوا : أساطير الأولين ، فقال : لم يعلمه أحد من الناس علمه شديد القوى .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة : فيه الوثوق بقول جبريل صلى الله عليه وسلم ، ففي قوله تعالى : شديد القوى جميع ما يوجب الوثوق لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل على ما عرف ، وكذلك قوة الحفظ ، فقال : (شديد القوى) ليجمع هذه الشرائط ، فيصير كقوله تعالى : ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [التكوير : 20 ، 21] .

                                                                                                                                                                                                                              اللباب : «شديد القوى من كافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية ، هذا ما جزم [ ص: 38 ]

                                                                                                                                                                                                                              به الزمخشري وتابعوه» . وقال صاحب الكفيل : «بل هي مضافة إلى مفعولها ، وبسط الكلام على ذلك ، والشديد البين القوة» .

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن عساكر عن معاوية بن قرة - بضم القاف وتشديد الراء - رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : «ما أحسن ما أثنى عليك ربك : ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين » ما كانت قوتك وما كانت أمانتك؟ قال : أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن ، وفي كل مدينة أربع مائة ألف مقاتل سوى الذراري ، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ، ثم هويت بهن فقلبتهن . وأما أمانتي فلم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن السائب : «من قوة جبريل أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الماء الأسود فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء حتى أسمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح ديكتهم ، ثم قلبها ، ومن قوته أيضا أنه أبصر إبليس يكلم عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند . ومن قوته هبوطه من السماء على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ، وصعوده إليها في أسرع من طرفة عين» .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر : في الكلام على قوله تعالى : ذو مرة » [النجم : 6] .

                                                                                                                                                                                                                              القرطبي : قال قطرب : تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل ذو مرة ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                              قد كنت قبل لقاكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه

                                                                                                                                                                                                                              وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله .

                                                                                                                                                                                                                              الجوهري : «والمرة القوة وشدة العقل ، ورجل مرير أي قوي ذو مرة . قال :


                                                                                                                                                                                                                              ترى الرجل النحيف فتزدريه     وحشو ثيابه أسد مرير

                                                                                                                                                                                                                              ابن القيم : «أي جميل المنظر ، حسن الصورة ، ذو جلالة ، ليس شيطانا ، أقبح خلق الله تعالى وأشوههم صورة ، بل هو من أجمل الخلق وأقواهم وأعظمهم أمانة ومكانة عند الله ، وهذا تعديل لسند الوحي والنبوة ، وتزكية له ، كما ذكر نظيره في سورة التكوير ، فوصفه بالعلم والقوة وجمال المنظر وجلالته . وهذه كانت أوصاف الرسول البشري والملكي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأصفاهم نفسا .

                                                                                                                                                                                                                              الإمام : «في قوله : ذو مرة » وجوه : الأول : ذو قوة ، قلت ورواه الفريابي عن مجاهد [ ص: 39 ] ويدل على هذا

                                                                                                                                                                                                                              قوله صلى الله عليه وسلم : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» . رواه الإمام أحمد .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : ذو كمال في العقل وفي الدين جميعا . الثالث : ذو منظر وهيبة عظيمة . الرابع : ذو خلق حسن» . قلت زاد الماوردي خامسا : ذو غناء .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : ولا تنافي بين هذه الأقوال ، فإنه صلى الله عليه وسلم متصف بها . فإن قيل : على قولنا ذو مرة ، قد تقدم بيان كونه شديد القوى ، فكيف تقول قواه شديدة وله قوة؟ فالجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أن ذلك لا يحسن إذا كان وصفا بعد وصف ، وأما إذا جاء بدلا فيجوز ، كأنه قال :

                                                                                                                                                                                                                              علمه ذو قوة ، ونزل شديد القوى فليس وصفا له وتقديره ذو قوة عظيمة أو كاملة . الثاني : أن إفراد «مرة» بالذكر ربما تكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خصه الله تعالى بها .

                                                                                                                                                                                                                              على أنا نقول المراد ذو شدة وهي غير القوة ، وتقديره علمه من قواه الشديدة ، وفي ذاته أيضا شدة ، فإن الإنسان ربما يكون كثير القوة صغير الجثة . وفيه لطيفة وهي أنه تعالى أراد بقوله : شديد القوى ، أي قوة العلم ، وبقوله : ذو مرة ، أي شدة في الجسم ، قدم العلمية على الجسمية ، كما قال تعالى : وزاده بسطة في العلم والجسم [البقرة : 247] ، وتقدم الكلام على «ذو» في اسمه صلى الله عليه وسلم : ذو الوسيلة فراجعه .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية