الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            الفصل الرابع

            المنهجية في الإدارة

            أولا: رؤية عمر رضي الله عنه للحكم ومسائله:

            لم ير عمر رضي الله عنه في نفسه ما يضعـه فوق المسـلمين، بل هو واحد منهم لا أكثر من ذلك ولا أقل، وكل ما في الأمر أنه مبتلى بتولي أمر الأمة وإدارة شؤونها على وفق شريعة الله تعالى. وقال في أول خطبة له بعد توليه الخلافة مبينا مثل هذه الأمور: "... ولن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم: إن عمر تغير منذ ولي، أعقل الحق من نفسي وأتقدم، وأبين لكم أمري، فأيمـا رجل كانت له حاجة، أو ظلم مظلمة، أو عتب علينا في خلق، فليؤذني - أي فليخبرني - فإنما أنا رجل منكم، فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم، وحرماتكم وأعراضكم واعطوا الحق من أنفسكم" [1] .

            هذا الإحساس الدائم بالمساواة، الذي لم يغادر مخيلة عمر رضي الله عنه ، المساواة بينه وبين الأمة، فيه جانبان: الأول أن عمر رضي الله عنه خالف حكام الأرض، في كل [ ص: 97 ] عصورها وأزمنتها، فما منهم واحد دام في الحكم كما دام عمر رضي الله عنه أو أكثر إلا وانتابه ذلك الإحساس والشعور بأنه من طينة أخرى، غير طينة المحكومين، والذي لم يأت منهم بنظرية أسطورية تجعله في مصاف الآلهة، فإنه ادعى أن نسله من نسلها، ومن لم يقل ذلك منهم، فإن الشعوب راحت هي تقدسهم وتألههم، فالشعوب هي التي تصنع طغاتها، وهي التي تجعل منهم آلهة أو أنصاف آلهة، حتى تكاد تسجد لهم، والشرق على وجه الخصوص يحفل بالكثير من ذلك، قديمه وحديثه.

            ويبدو أن هذا المنزلق الخطير وعاه عمر رضي الله عنه منذ أول وهلة، ولا سيما أن المهابة التي كان عليها، ويستشعرها الناس عند أول مطالعتهم له، تهيئ الإحساس في النفس بتعظيمه، ولاسيما إذا تفاعلت هذه الحالة مع الشدة التي عرف بها، ولو أنه تفاعل مع هذه الحالة، لغلا فيه الناس، ولانقادوا إلى فتنة تخرجهم من دينهم، لكنه أدرك خطورة ذلك، وأنه هو الذي نبه الأمة بأسرها، وساعده على ذلك يقظة الجيل الأول، الذي ضم كبار الصحابة، الذين كانت أعينهم متفتحة، ترصد أحوال الحاكم، تحاسبه على كل ما يبدر منه أو تلمس فيه مخالفة من نوع ما.

            أما الجانب الثاني في هذه المسألة - أعني تعزيز الإحساس بالمساواة مع أفراد الأمـة - فقد تناولته بعض الأقلام على أنه مزايا الخلافة في عقودها الأولى، وأن هذه المزية مستمدة من طبيعة العلاقة بين شيخ القبيلة وأفراد قبيلته عند العرب، تلك العلاقة التي قامت على المساواة والندية بين الطرفين، ومع صحة القول بهذه الندية والمساواة، لكن لماذا هذا التجريد لنظام الحكم في [ ص: 98 ] الإسلام من أصوله الشرعية وإحالة مزاياه إلى عصر الجاهلية؛ فأي الأمرين أقوى حضورا في ذهن عمر رضي الله عنه وذاكرته؟ جاهلية مضى على هجره لها - يوم تسلم الخلافة - أكثر من ربع قرن، أم دين التصق به بقوة وعنفوان قل نظيره؟ ولا نقـول عدم نظـيره، فبعض مزايا الجاهـلية أقرها الإسلام، ثم أعاد صياغتها، وصياغة حيثياتـها على أسس جديدة تعكس نظرة الإسلام إلى الحياة ومعانيها ومبانيها.

            غير أن عمر رضي الله عنه الذي أقر مبدأ المساواة بينه وبين الأمة وأبنائها، ما شأن علاقته بهم؟ وهل تعني هذه المساواة مجاراتهم في أسواقهم، ومجالستهم في منتدياتهم؟ هل هي أقوال عابرة؟ أم قوالب جامدة؟ أم أن لها أسسا ومعايير تحـكمها؟ لا ريب في أن في الناس طبعا ينـزع نحو استحصال المكاسب، وربما سلـكوا إليهـا الشرعي واللاشرعي من الوسائل، وهذا أمر استشعره عمر رضي الله عنه ، وربما عانى منه كثيرا، لذلك ينبغي له أن يكون (قويا) في إحقاق الحـق، حتى لا يغلبه أحد، فيضيع الحق، وتتظالم الناس. لقد نجح عمر رضي الله عنه في أن يكون (قويا) فلا يطمع فيه ظالم أو صـاحب جـاه أو متنفذ لينـزع منه ما ليس له، فوصفـه حـذيفة بن اليمان رضي الله عنه بقـوله: "والله ما عرفت رجلا لا تأخذه في الله لومة لائم إلا عمر" [2] .

            وقد يوحي ذلك بأن عمر رضي الله عنه لم يعرف في سلوكه سوى القوة والصرامة وشدة البأس، وإذا كان الأمر كذلك فإن له عواقبه الوخيمة، فهيمنة الشدة [ ص: 99 ] وحدها ظلم، وسيادة اللين وحده ظلم أيضا، فليس كل الناس ينتفعون من قوة الحاكم وشدته، وليس كلهم ينتفعون من لينه ومرونته لوحدها، لذا فإن الحال الأنسب حتى يسود الحق والعدل هو المزاوجة بين القوة واللين، فللصرامة ظروفها وللين ظروفه، ولا يمكن استبدال أحدهما بالآخر في غير ظروفه، وذلك ما أدركه عمر رضي الله عنه حقا، فقال عنه: "إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالشدة التي لاجبرية فيها، واللين الذي لا وهن فيه" [3] . وكان يدعو ربه أن يعينه على ذلك: "اللهم إني شديد فليني، وإني ضعيف فقوني" [4] ، فلما وجد في أحد عماله جفوة وشـده لا يمازجهما اللين عزله، فقد دخـل هذا العامل على عمر رضي الله عنه فوجده مستلقيا، وصبيانه يلعبون على بطنه، فتعجب من ذلك، فقال له: كيف أنت مع أهلك؟ قال: إذا دخلت سكت الناطق، فقال: اعتزل، فإنك لا ترفق بأهلك وولدك، فكيف ترفق بأمة محمد؟! [5] .

            لقد وجد عمر رضي الله عنه أن من أعقد الأمور التي واجهها أن يختار الولاة والعمال الذين يتولون معه إدارة شؤون الأمة. لقد كانت معايير عمر رضي الله عنه صعبة في معالجة هذا الأمر، فقد سئل مثلا: ما يمنعك من استعمال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الأعمال؟ قال: هم أجل من أن أدنسهـم في العمل [6] . فكون المرء صحابيا لا يعني بالضرورة كفـاءته في العمل السياسي والإداري. والخيرية لا تعني [ ص: 100 ] الخيرية الدينية لوحدها، بل لا بد من أن تمتزج فيها المؤهـلات الدينية والدنيوية. فإذا لم يمتلك الصحابي المؤهلات الدنيوية للعمل - الكفاءة - أخفق في عمله، فيناله من الأذى ما هو أرفع منه، هكذا كانت فلسفة عمر رضي الله عنه في هذه الناحية. فقد يستعمل الرجل ويدع خيرا منه من الناحية الدينية، ولكن فيه مزايا أخرى تؤهله: "إني لأستعمل الرجل وأدع خيرا منه، وذلك إني استعمله لأن يكون أنقص عيبا، وأوسع رأيا، وأشد جرأة، وأصبر على الجوع والعطش" [7] ، فلقد كان صعبا عليه أن يستعمل الرجل وهو يجد ثم من هو خيرا منه وأكثر كفاءة [8] .

            إن الولايات العامة تكتنف على مسؤوليات خطيرة، لذلك لابد لمن يتولاها من مؤهلات وكفاءات، هي من حيث ارتباط العمل بمصالح الأمة، تتقدم في خطورتها على خيرية المرء في الدين، مع ملاحظة أن هذا لا يعني إهمال خيرية الدين، بل إن الأمر يتطلب منسوبا معقولا من القيم والأحكام الشرعية لا غنى عنها لكي يؤدي المرء عمله على الصورة المطلوبة، فإلى جانب القوة والكفاءة لا بد من التوافر على الأمانة والصدق في العمل.

            وثمـة مشكلة واجهت عمر رضي الله عنه ، فقد وجـد أن أهل التقـوى والورع لا يتوافرون على مواصفات الكفاءة اللازمة في العمل، بل لا يتحمسون للعمل الحكومي، ووجد أن من هو أقل منهم ورعا وتقوى أكثر حماسة لمثل هذا [ ص: 101 ] العمل مع توافرهم على الكفاءات اللازمة، لذلك قال: "اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة" [9] .

            إن التقي الورع إذا استبد به الخوف من الله، وجاوز فيه الحد المناسب، انتقل به الأمر من القوة إلى الضعف، ذلك لأن المرء إذا خاف الله عمل بموجب شرائعه وأحكامه، فيكون في ذلك قوة للأمة، غير أن بعضهم يستبد به هذا الخوف، فيتحول إلى السلبية، فيحجم عن العمل، ويمتنع عن الإقدام. وهذا هو ما كان يشتكي منه عمر رضي الله عنه عند بحثه عن الكفاءة بين أهل التقوى والورع.

            أمر آخر كان يبحث عنه عمر رضي الله عنه فيمن يوليه: "لا يقيم أمر الله إلا من: لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتبع المطامع، يكف عن غرته، ولا يكتم في الحق على حدته" [10] ، وهي أمور تؤشر اجتماع القوة والكفاءة والأمانة والجرأة والصدق في دين الله.

            وثم أمر آخر كان يتحراه عمر رضي الله عنه هو أن يكون أهل الولايات والعاملون فيها من أهل الحضر، فهؤلاء أصحاب الخبرة والتجربة، لهم اطلاع وانفتاح على التجارب والثقافات المختلفة، لهم القدرة على التفاعل، فيهم المرونة والانفتاح، لا يعملون بالجفـوة والخشونة، فقد وفد عليه عتبة بن غزوان - وكان واليا على البصـرة - فسـأله عمر رضي الله عنه : من استعملت على البصرة؟ قال: مجاشع ابن مسعود، فدهش وتعجب من صنيعه وقال: "تستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر؟!" [11] . [ ص: 102 ]

            ولم يكن في منهج عمر رضي الله عنه استعمال الموالي - المسلمون من غير العرب - ولاة على المدن والأقاليم، إلا إذا توافرت فيهم عناصر تمنحهم القوة والأفضلية، فقد وفد عليه عامله على مكة، فسأله: "من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، قال : ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من موالينا، قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله تعالى، عالم بالفرائض، قاض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) [12] ، وكان له موقف مشابه مع عمرو بن العاص رضي الله عنه أيضا [13] . ويبدو أن عمر رضي الله عنه كان يخشى ردة فعل إزاء الموالي قد تنبع من نظرة متعصبة لم تنطفئ جذوتها تماما عند البعض.

            وكان عمر رضي الله عنه شديد المنع لتولية الرجل لاعتبارات غير موضوعية، فقال: "من استعمل رجلا لمودة، أو لقرابة، لا يستعمله إلا لذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" [14] ؛ لأن هذا المسلك يعرض مصالح الأمة لموازنات ومساومات غير شرعية، وذلك ما يهدد بانتهاك مصالح هذه الأمة، ومن الطبيعي أن يدخل في هذا المعـنى تولية أشخاص لاعتبـارات حزبية أو طائفية أو مصلحية، بمعنى أن اختيار الأشخاص إذا لم يستند إلى الكفـاءة والأمانة، إنما هو اختيار لا يستند إلى المقومات الشرعية، وهو ما يؤدي إلى خرق القاعدة [ ص: 103 ] الرصينة: الرجل المناسب في المكان المناسب، فالاعتبارات الفنية (التكنوقراط) تبقى الأساس الفاعل لحفظ سلامة العمل في الجهاز الحكومي.

            ومن المواصفات الأخرى التي كان يبحث عنها عمر رضي الله عنه عند توليته الأشخاص، أن يكون المرء قوي الشخصية يمتلك حضورا مؤثرا، من غير أن يكون ذلك عن تصنع أو تكلف، بل يكون تلقائيا ولا يشوبه الاستعلاء، فهو "رجل إذا كان أميرهم، كان كأنه لم يكن أميرهم، وإذا لم يكن أميرهم، كان كأنه أميرهم" [15] ، فهي "الكارزما" المؤثرة المحسوبة القدر، فإذا تجاوزت قدرها انقلبت إلى فتنة، وذلك ما فعله خالد بن الوليد رضي الله عنه ، لما وجد أن الناس كادوا يفتنون به بما حققه من انتصارات، فأحب عمر رضي الله عنه أن يعلم الناس أن الله تعالى هو الصانع لذلك وليس خالدا [16] .

            كل هـذه المواصفـات لم تمنـع عمر رضي الله عنه من دوام المتابعة والملاحقة، ولا سيما إن في الأمة من يحثه على ذلك ويطالب به، قال له رجل في طرقات المدينة: "ما أراك إلا تستعمل عمالك، وتعهد إليهم العهود، وترى أن ذلك أجزأك! كلا والله إنك المأخوذ بهم إن لم تتعهدهم" [17] ، وليس ذلك بغريب، فعمر رضي الله عنه هو الذي كان يدرب أمته على محاسبته ومراقبته.

            ومن ناحية أخرى، فإن أبرز ما يميز منهج عمر رضي الله عنه في الإدارة مركزيته الواضحة، التي دفعته إلى ملاحقة كل جزئيات العمل في الدولة المترامية الأطراف، وبما قد لا يخطر على البال من تفاصيل. [ ص: 104 ]

            لقد اجتهد عمر رضي الله عنه بأن يتولى كل شيء بنفسه ما وسعه ذلك، لقد كان يحمل سجلات العطاء (بنفسه) ويذهب بها حيث تقيم القبائل ليوزع عليها العطاء (بنفسه) [18] ، وكان يمر على الأسواق (بنفسه) مفتشا ومطلعا، آمرا وناهيا [19] ، وتولى عمر رضي الله عنه (بنفسه) تصميم مدينة الكوفة بعدما احترقت بسبب بنائها الذي كان من القصب [20] ، هذا فضلا عن صور سابقة مرت علينا مثل مداواته الإبل (بنفسه) وإطعامه للأعراب (بنفسه) في عام الرمادة، إلى غير ذلك من أمور قد لا يمكن حصرها باشرها عمر رضي الله عنه (بنفسه).

            ومما لاشك فيه أن هذه المركزية الشديدة شكلت في الوقت نفسه رقابة صارمة على عمل جهاز الدولة، فكأنك بهم يرون عمر رضي الله عنه بدرته وكامل هيبته، فكانوا يتحسبون لذلك تحسبا يدفعهم إلى التدقيق في أعمالهم خوفا من أن يبلغه أنهم خالفوا أو قصروا، فينالهم منه ما لا يسرهم، فكان في ذلك استقامة في عمل الدولة، فإذا كان للمركزية هذا الوجه الإيجابي، ترى ألم يكن لها وجه آخر؟

            إن أبرز ما يمكن أن يؤخذ على مركزية عمر رضي الله عنه هذه هو أن هذه العين الصارمة إذا ما غفلت أو غفت أو غابت، فكيف سيكون شأن الذين كانوا (يخشون) هذا الرقيب؟ قد تبدو الإجابة محرجة، ولكن الأمر الرئيس الذي يشكل مفتاح حل هذه المعضلة، أن عمر رضي الله عنه كان يدرك خطر هذا الأمر لذلك [ ص: 105 ] وجدناه في مناسبات عـدة يدرب الأمـة على جرأة المحاسبة لولاة أمورها، فإذا ما تمكنت الأمة من الإمساك بزمام أمرها، فإنها ستكون هي العين الرقيبة، وهذه العين لا تغفل ولا تغفو ولا تغيب، لأنها ليست عين رجل واحد، بل هي عين أمة بأسرها.

            فضلا عن أن عمر رضي الله عنه لم يكن مختارا بل كان مضطرا، فالدولة في أول عهدها، والواجبات لا حصر لها، زد على ذلك التحديات الخارجية القادمة من أكثر من جبهة فرضت على عمر رضي الله عنه أن يعمد إلى بناء سلطة قوية متماسكة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية