الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            الفصل الخامس

            أخلاقيات الحرب

            أولا: أخلاقيات تعامل عمر رضي الله عنه مع المجاهدين في سبيل الله:

            قد تبدو الحرب - لأول وهلة - صراعا داميا ممتدا على رقعة معينة من الأرض، لكنها في الحقيقة تكتنف على أمور عديدة أبعد من ذلك بكثير، تبدأ بكيفية التعامل مع أبناء الأمة من المقاتلين، ثم العقيدة العسكرية التي تستند إليها الأمة، ثم كيفية التعامل مع العدو في الميدان، وأخيرا كيفية التعامل مع نتائج الحرب. وكل هذه الجوانب كانت ماثلة في ذهن عمر رضي الله عنه وتفكيره ووجدانه، ولم تغب عنه للأهمية الفائقة لكل منها.

            فقد كان هم المسلمين على عمر رضي الله عنه ثقيلا، وطأته ثقيلة، فحياتهم وأرواحهم أمانة لا بد من أن يحسن في أدائها، لذلك نجده لم يكن راغبا في التوسع في جبهات القتال بطريقة جامحة، بل أراد أن يكون ذلك متوازنا ومتسلسلا وبما يتفق مع قدرات المسلمين البشرية المحدودة، حتى لا يتحول الجهاد إلى عملية انتحارية جماعية، فمما قاله ويدل على هذه المعاني: "لوددت أن بين السواد والجبل - يريد بلاد إيران - سدا، لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال" [1] . [ ص: 129 ]

            وكان يطلب من قادة الجند دوام مكاتبته بأخبارهم في كل يوم [2] ، يوافوه أولا بأول بأخبارهم، كما أن ذلك يعينه على اتخاذ القرارات والإجراءات اللازمة [3] ، وكان من دأبه إذا أبطأت عليه الأخبار أن يقنت [4] ، يدعو لإخوانه المجاهدين دعاء جهريا سائلا مولاه النصر والسلامة لهم. وكان يخرج إلى أطراف المدينة ينتظر الركبان عسى أن يأتوه بالأخبار؛ لا يأبه إلى كونه خليفة ملتزما بـ (مراسيم) تحفظ له (وقار) السلطة.

            فقد خرج مرة كدأبه هذا، فإذا بالبشير قادم يحمل أخبار نصر المسلمين في القادسية، وكان عمر رضي الله عنه واقف ينتظر، فلما رآه تعلق به يستنشده الأخبار، والبشير على ناقته وعمر رضي الله عنه يهرول خلفه، لا يعرف أن هذا هو (أمير المؤمنين) [5] ، وقد يبدو المشهد ساذجا وفطريا وبدائيا، كان بوسع عمر رضي الله عنه أن يأمره بالوقوف ليكلمه بوصفه أميرا للمؤمنين، لكن عمر رضي الله عنه المشحون بالعاطفة تجاه إخوانه من المجاهدين لم يكن ليتذكر أصول (البروتوكولات) و (المراسيم)، كان يبحث عن جملة أو كلمة تشفي عطشه المتطلع إلى أحوال إخوانه وهم يخوضون غمار حرب لا هوادة فيها.

            ولقد كان حريصا على أن يحفظ حياة كل مسلم، بأن تكون الانتصارات بأقل ما يمـكن من تضحيـات، فعن أنس أن عمر رضي الله عنه سأله: كيف تصنعون [ ص: 130 ] إذا حاصرتم حصون العدو؟ قال: نحاصرهم ثم نبعث رجالا يحفرون في أساس السور، فقال: أرأيت إن رمي رجل بحجر فأصـابه أيقتله؟ قال: نعم، فقال عمر رضي الله عنه : ما أحب أن تفتحوا حصنا فيه أربعون رجلا بدم رجل من المسلمين يقتل ضياعا [6] .

            وجاء في هذا السياق أيضا رفضه حمل المسلمين في البحر للقتال [7] ، وكان يقول: "أحمـل أمة على لوح فأغرقهم، لا والله، لا أفعل" [8] ، فلما غزا عرفجة بن هرثمة الأسدي بالمسلمين في البحر، أنكر عليه عمر رضي الله عنه وعنفه [9] . ومثل ذلك ما مر بنا في قصة العلاء بن الحضرمي، إذ لم تكن للمسلمين خبرة بعد في ركوب البحر والقتال فيه. ويكفيهم ما يحيطهم من جبهات قتال برية، والوقت كان لا يزال باكرا لفتح جبهة البحر الواسعة على المسلمين.

            وكان لعمر رضي الله عنه قدرات عجيبة في اختيار قادة الحرب، فقادة الجند عنده أهم من كل الوظائف وأخطرها، لتعلقها بأرواح المسلمين ومصير دولتهم، لذلك كان يقول: "لأمير جيش من جيوش المسلمين أهم إلي من أمير مصر من الأمصار؛ لأن صاحب المصر يريد الأمر فيراجعني، وصاحب الجيش لا يستطيع أن يراجعني" [10] . وهذه التفاتة عظيمة من عمر رضي الله عنه ، إذ ليس أمام القائد [ ص: 131 ] العسكري متسع من الوقت للمداولة في كل الأحوال، إذ لا بد من قرارات سريعة في بعض الأحيان، وذلك ما يتطلب في القائد مواصفات دقيقة ومحكمة حتى لا تتعرض مهمته إلى خطر.

            لقد كان عمر رضي الله عنه دقيقا في سبر أغوار الرجال ومعرفة معادنهم، فثمة فروق دقيقة يصعب تمييزها أحيانا، لكنها قد تقود إلى أفدح النتائج، فقد ميز عمر رضي الله عنه بين الشجاعة والجرأة والإقدام من ناحية والاندفاع والولع والرغبة الجامحة في القتال من ناحية أخرى؛ فالشجاعة والإقدام تعكس نزوعا إنسانيا إيجابيا يخلو من التهور، يتحسب ولكن لا يتردد، يريد النصر ولكنه يريد حفظ أرواح المقـاتلين أيضـا. أما الآخـر فإنه شجاع مقدام، ولكنه لا يتحسب ولا يهمه حجم التضحيات التي يقدرها من أجل النصر، فتكون أرواح الجند عنده رخيصة، فذلك ما كان يرفضه عمر رضي الله عنه بشدة.

            فمن الذين استبعد تقليدهم إمرة الجيوش سليط بن قيس الأنصاري، بعثه عمر رضي الله عنه مع أبي عبيدة رضي الله عنه ، وقال له بشأنه: "قد بعثت معك رجلا هو أفضل منك إسلاما فاقبل منه مشورته" ثم قال لسليط نفسه: "لولا أنك رجل عجل في الحرب لوليتك هذا الجيش، والحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث" [11] . كما كتب إلى قادة الجند أن لا يستعملوا البراء بن مالك في مواقع القيادة لأنه "مهلكة من المهالك، يقدم بهم" [12] ، فكان مقداما في الحرب، تحكمه الرغبة الشديدة في تحقيق النصر بغض النظر عن الثمن. [ ص: 132 ]

            ومن ناحية أخرى، فإن عمر رضي الله عنه لم يول أحدا من أهل الردة قيادة المسلمين، إلا بعد أن ضرب الإسلام جرانه، وظهر أمره في الآفاق، بل جعلهم (حشوة) في الجيش، حتى كبراءهم وزعماءهم، على الرغم من مكانتهم في أقوامهم [13] ، خوفا من أن يتمكن التردد والضعف من هؤلاء في الساعات الحرجة فينقلب الأمر وبالا على المسلمين.

            وجه آخر لفاعلية عمر رضي الله عنه في التعاطي مع المسائل الشرعية، فقد حرم الإسلام التولي يوم الزحف: ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) (الأنفال:16 )، فكان التولي يوم الزحف كبيرة من الكبائر، وإذا كان هذا الحكم عاما، فإن التفـاصيل لها حيثياتـها، لذا قال العلماء: إذا كان عدد الكفار أكثر من ضعف عدد المسلمين جاز الفرار منهـم، وإن لم يكن كذلك لم يجز الفرار [14] ؛ وقد أراد عمر رضي الله عنه أن يكون عمليا بشكل ملموس، لذا كان يقول للجيوش إذا بعثهم: "أنا فئتكم" [15] ، وكان يردد على مسامع المسلمين: "أنا فئة كل مسلم" [16] . [ ص: 133 ]

            ومن موقف عمر رضي الله عنه هذا نستشف أن تفسير الآية المتقدمة يعني أن الهارب من القتال لأول بادرة خوف هو المستحق لما فيها من تهديد ووعيد، غير أن الذي يثبت في القتال ويعم حتى يتبين له أن ثمة خسارة تلوح في الأفق، وأن الاستمرار في القتال قد يقود إلى إبادة بقية المقاتلين، هنا يكون الانسحاب المنظم من القتال، إنما هو حفظ للمقاتلين من أن يبادوا من غير طائل، وبالتالي فإن تقليل الخسائر يعد من هذا الوجه أحد أشكال الظفر، وعمر رضي الله عنه بقوله هذا يوصل رسالة إلى المقاتلين مفادها أن يفهموا قول الله تعالى المتقدم على الوجه الصحيح، يكون بالشكل الذي ذكرناه، وصنيع عمر رضي الله عنه هذا إنما جاء تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إذ خـاطب النبي المسـلمين في بعض غزواتـهم بقوله: "أنا فئة كل مسلم" [17] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية