الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            خامسا: محاسبة عمر رضي الله عنه لولاته وعماله:

            شهد عصر عمر رضي الله عنه تحولات كبيرة أصابت بنية الدولة والأمة، فقد شهد عصره انسياح جيوش المسلمين في كل الاتجاهات، محققة انتصارات متعاقبة، أزالت من الوجود إمبراطورية الفرس الساسانيين، وقزمت إلى حد كبير إمبراطورية الروم البيزنطيين، فاتسعت رقعة الدولة كثيرا، وانثالت الأموال على المسلمين من كل حدب وصوب، حتى كان يصعب عليهم حسابها، وبقدر ما كان ذلك بابا من أبواب الخير والنعمة، لكنه كان في الوقت نفسه بابا من أبواب الفتنة، فليس كل أحد قادر على أن يعصم نفسه ويصونها من أن تمتد يده إلى هذا المال من غير وجه حق. ولكن كان بوسع عمر رضي الله عنه أن يحاسب هؤلاء ليأخذ منهم حق الأمة، الذي زاغوا فيه. واقتضى ذلك من عمر رضي الله عنه أن يبث عيونه يترصدون أية مخالفة أو خلل في عمل هؤلاء الولاة والعمال، حتى كان علمه بمن نأى عنه كعلمه بمن بات معه على مهاد واحد؛ فكانت هذه العيون تأتيه بالأخبار أولا بأول [1] ، قال الطبري عنه: "كان لا يخفى عليه شيء في عمله" [2] ، ويعني هذا أن عمر رضي الله عنه لم يركن إلى ثقته المبدئية بعماله على أهمية هذه الثقة، ولكن لا بد أيضا من تحري ما يفرزه الواقع من معطيات عملية. [ ص: 121 ]

            كما كان عمر رضي الله عنه يدرس - من ناحية أخرى - ما يطرأ على حياة الولاة والعمال من تغيرات، فكان يقول: "لي على كل خائن أمينان: الماء والطين" [3] ، فمن كثر بنيانه وزرعه من العمال، احتسب أن ذلك كان من الخيانة في المال، فلما مر ببيت عال قال: "أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها" [4] .

            ثم إن الماء والطين وحدهما لا يكفيان في تحري الأمر، فكان لابد من البحث عما استتر وخفي، فكان يدخل بيوت عماله متنكرا بعد الاستئذان فينـظر حـواليه عما يجده من متغيرات في حياتـهم، وهكذا دخل بيت خالد بن الوليد رضي الله عنه ، فلم يجد ما يستحق محاسبته عليه [5] ؛ وربما رصد أحدهم في الطريق عائدا من ولايته، فيفاجئه هناك ليرى ما عنده قبل دخوله بيته [6] .

            هنا عمد عمر رضي الله عنه إلى مصادرة العمال أو مشاطرتهم مالهم إذا أحس أن في هذا المال حقا للأمة، وأمثلة ذلك كثـيرة، منها مثلا: مصـادرته الحارث ابن كعب بن وهب بعد أن سأله عن إبل وعبيد باعهم بمائتي دينار؟ فقال الحارث: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها، فقال عمر رضي الله عنه : أما والله ما بعثناكم لتتجروا في أموال المسلمين! فصادره عليها [7] . وكان قد استعمل عتبة بن أبي سفيان، [ ص: 122 ] فكان لما عزله تلقاه في طريق عودته، فوجد معه ثلاثين ألفا! فقال له: أنى لك هذا؟! قال: والله ما هو لك ولا للمسلمين، ولكن مال خرجت به لضيعة اشتريتها، فقال عمر: عاملنا وجدنا معه مالا ما سبيله إلا بيت المال، فصادره عليه أيضا [8] .

            وقد يبدو غريبا سلوك عمر رضي الله عنه في تعامله مع ولاته بهذه الطريقة، من حيث طريقة الملاحقة والمتابعة، ومن حيث المصادرة والمشاطرة، ولكن لابد من القول هنا: أولا، إن عبء الأمانة ثقيل جدا، لا يجوز التهاون فيه ولو بمقدار ذرة، فإن الله تعالى يحاسب على مثل هذه الموازين. ومن ناحية أخرى فإن من لم يحاسب عماله وولاته على أعمالهم! إنما هو واحد من هؤلاء: فهو إما لا يأبه لذلك ولا يـوليه عنايته، وبالتالي فـإنه لا يحسن تقدير العبء الذي يحمله وما سيسأله الله تعالى عنه، ومثل هذا قد أصابته الغفلة! وإما أن يكون قد استكان إلى الثقة وحدها، وغلب عـليه حسن الظن، وهذا أيضا من الغفلة! وإما أن يكون شريكا في الإثم والخيانة، ومثل هذا لا يجرؤ على محاسبة عماله وولاته على ما قد اقترف مثلهم، فيكون قد وقع في الخيانة!

            وعمر رضي الله عنه لم يكن كمثل هؤلاء أبدا، فهو وإن لم يكن (خبا) إلا أن (الخب) لا يغلبه، ولا تنطـلي عليه حيلته، فهـو في الفطنة والنباهة والفراسة ما لا يسهل على أحد أن يغلبه، كما أنه كان زاهدا ورعا بما أبعده كثيرا عن [ ص: 123 ] الولوغ في أموال المسلمـين؛ فإذا كان هـو كذلك فلـم لا يحاسب عماله؟ أما الشدة في ذلك فقد وجدها لازمة لتحقيق الردع المطلوب منها.

            هذا ومن جانب آخر، فإن ما كان يشغل عمر رضي الله عنه في ولاته ليست شؤون المال وحدها، بل إن المال هو أهون الأمور، فلطالما كانت الرعية شغله الشاغل، لذلك فإنه كان يتتبع عماله وولاته فيما يخص سيرتهم في رعيتهم، هل كانوا يحسنون السير فيهم؟ هل كانوا يرفقون بهم؟ وما إلى ذلك من أمور، وكان يتحرى مثل هذه الأمور بالوسائل التي سبق ذكرها؛ إما عن طريق الوفود القادمة إليه من الأقاليم، أو عن طريق العيون الذين بثهم هناك، أو بالمتابعة الشخصية من خلال الزيارات والرحلات إلى هذه الأقاليم، أو من خلال استقدام الولاة والعمال إلى حاضرة الخلافة.

            فقد استدعى أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ومعه عماله، فلما مثلوا أمامه، صار يتفحصهم بعينين ثاقبتين، مدققا في أحوالهم، ثم راح يستجوبهم عن تفاصيل عملهم [9] ؛ وكان يعمد إلى الوافدين عليه من الأنحاء يسألهم عن ولاتهم وعمالهم، فإن قالوا خيرا، يسألهم: هل يعودون مرضاكم؟ فإن قالوا: نعم، سألهم: وهل يعودون عبيدكم؟ فإن قالوا: نعم، سألهم: كيف صنيعهم بالضعفاء؟ وهكذا يتحرى جزئيات العمل [10] . [ ص: 124 ]

            ولما قدم عليه جرير بن عبد الله، سأله عن سعد بن أبي وقاص، فقال له:

            "كيف تركت سعدا في ولايته؟ فقال: تركته أكرم الناس مقدرة، وأحسنهم معذرة، هو لهم كالأم البرة، يجمع لهم كما تجمع الذرة -أي النملة-، مع أنه ميمون الأثر، مرزوق الظفر، أشد الناس عند البأس، وأحب قريش إلى الناس.

            قال: فأخبرني عن حال الناس؟

            قال: هم كسهام الجعبة، منها القائم الرائش - أي الجيد -، ومنها العضل الطائش - أي الرديء-، وابن أبي وقـاص ثقافها يغمز عضلها، ويقيم ميلهـا، والله أعلم بالسرائر يا عمر.

            قال: أخبرني عن إسلامهم؟

            قال: يقيمون الصلاة لأوقاتها، ويؤتون الطاعة لولاتها" [11] .

            ومما لا ريب فيه، وهو ظاهر مشهور عن عمر رضي الله عنه وعصره، أن هذه المتابعة الصارمة والحازمة والدؤوبة قد آتت أكلها، من غير زعم أن ذلك كان مطلقا، فالعدل كان فاشيا، والمساواة كانت أساسا للحكم في الرعية، وأن أداء الحقوق إلى أصحابها قد أخذ منواله الدائب، حتى أصبح عمر رضي الله عنه شعارا للحق والعدل والمساواة والاهتمام بكرامة الإنسان وآدميته.

            هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن عمر رضي الله عنه كان يلجأ إلى عزل عماله وإقصائهم عن العمل إذا ما وجد فيهم الخلة التي توجب ذلك، ضمانا لسلامة [ ص: 125 ] العمل، وصيانة لحقوق الأمة، وفوق كل ذلك حفظا لدين الله تعالى. وكانت الأسباب التي توجب العزل عند عمر رضي الله عنه هي:

            - ضعف العامل: فقد عزل رجالا لضعفهم في مواقع القيادة، كانوا من أهل الصلاح والورع، إلا أن قدرتهم على قيادة الناس والأخذ بزمامهم كانت شيئا آخر، فعزل عمار بن ياسر رضي الله عنه عن الكوفة لأن أهلها استضعفوه، وعلى هذا المنوال عزل كل من أبي هريرة وشرحبيل بن حسنة، رضي الله عنهما [12] .

            - القوة الفائقة: وعلى الضد من ذلك، فإن القوة الفائقة في العامل قد تكون سببا لعزله أيضا، فقد عزل رجالا أقوياء، لا شائبة تشوبهم فيما يتعلق بدينهم وأمانتهم، كما هو الحال مع خالد بن الوليد رضي الله عنه ، فقد صرح عمر رضي الله عنه بقوله: "إني لم أعزل خالد عن سخطة، ولا عن خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفـت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلمـوا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة" [13] ، فإن (الكارزما) التي امتلكها خالد رضي الله عنه قد تتحول إلى أمر آخـر لا تحمـد عقباه، ولاسيما إن عمر رضي الله عنه كان يميل إلى الموازنة في الأمور من غـير إفراط ولا تفريط. ومثال آخر قريب من ذلك، إذ عزل زياد بن أبيه عن عمله، فلما وجد زياد أن الأمر قد يدفع إلى سوء الظن به، طمـأنه عمر بقوله: "ما عزلناك لخزية، ولكني كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك" [14] . [ ص: 126 ]

            - سوء السيرة في الناس: فكان إذا بلغ عمر رضي الله عنه أن عاملا لا يرفق برعيته، عزله [15] ؛ لأنه يكون قد أخفق في إقامة مفهوم (الرعوية) على حقيقته، وهو ما يؤدي إلى استئثار العامل بسلطانه، فيجعل من عمله نجعة ينتجع بها، متربحا على حساب رعيته.

            - عدم الالتـزام بالقـرارات المركزية: فذلك ما يؤدي إلى ضعف وحدة السلطة وتماسكها، وربما هدد بالتمرد والعصيان، مهما كانت النيات التي تقف وراء ذلك، فهذا العلاء بن الحضرمي، كان عاملا على البحرين، فقرر عبور البحر إلى بلاد فارس، من غير مشاورة عمر رضي الله عنه في الأمر، مع علمه المسبق أن عمر رضي الله عنه كان لا يزال يرفض مثل هذه (المغامرة) فجازف العلاء بالأمر، وكانت المغـامرة خطيرة فعلا لولا تدارك الأمر، فقرر عمر رضي الله عنه عزله، ثـم تبعه بمـا هو أمر من ذلك إذ ألحقه بسعـد بن أبي وقاص، وكانت بينهما منافسة [16] .

            - مخالفـة الأحـكام الشرعية: لم يبلغ المسلمون ما بلغوه من مجد عريض إلا بالتزامهـم شريعـة الله تعالى وأحكامه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لذا فإن مخالفة هذه الجوانب تنذر بانفراط العقد الذي سلكته لهم الشريعة، فإذا تم التغاضي عن ذلك اتسع مداه، وعظم خطره، فكان ذلك بالنسبة لعمر رضي الله عنه كافيا لاتخـاذ إجراءات صارمة، فلما بعث إليه عتبة بن فرقد أربعين ألف [ ص: 127 ] درهم عن عشـور الخمر، التي كان يتاجر بـها أهل الذمة أو تجار دار الحرب، أثار ذلك غضب عمر رضي الله عنه ، وقال له: والله لا أستعملك على شيء بعدها، فعزله [17] .

            - قلة الرحمـة: فقـد عزل من لم يجد في قلبه رحمة، إذ دخل عليه عامل من عمـاله، فإذا عمر رضي الله عنه يقبل أحـد أولاده، فقال الرجل: أتقبل هذا يا أمـير المؤمنـين، فو الله ما قبلت ولدا قط؟! فقال عمر رضي الله عنه : فأنت والله بأولاد الناس أقل رحمة، فرد عهده ولم يوله [18] ؛ لأن فلسفة الحكم في الإسلام تقوم على الرعـوية والإدارة لا عـلى (السلطوية). ولعل الرحمة من أبرز معـالم فلسفة الإسـلام في الحـكم، فإذا غـابت لم يعد الحـكم مستوفيا لشروطه الإسلامية. [ ص: 128 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية