الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            خامسا: خوف عمر رضي الله عنه من الله تعالى:

            إن لله تعالى سطوة ينبغي للعاقل أن يحسب لها ألف حساب فإن الله تعالى يعذب بالنار ويخلد فيها أيضا، وهذا فضلا عن انتقامه في الحياة الدنيا، إذ قد يعجل الله تعالى العذاب لمستحقيه في حياتهم الدنيا، فتتعاقب عليهم النكبات والمصائب بما يستحقون. لذلك ترتب على كل عاقل أن يروض نفسه على مخالفة الله تعالى، يحاسب نفسه على مثاقيل الذر: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) (الزلزلة:7-8)، وإن الله تعالى لا يخفى عليه شيء من ذلك: ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) (الحاقة:18)، ثم يروض المرء نفسه على محاسبتها، فكلما انقضى نهار وجن عليه الليل وضع نفسه تحت الحساب يسألها عما عملت في يومها ذاك، ثم يضعه في إحدى كفتي ميزانه لينظر بعينه كيف حاله.

            وانطلاقا من هذا المنهج جاءت صرخة عمر رضي الله عنه المدوية: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم" [1] وكان من صور محاسبة عمر رضي الله عنه لنفسه أنه كان يدني يده من النار ثم يقول: "يا ابن الخطاب! هل لك على هذا صبر؟" [2] . وكان يردد: أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وأن قعرها بعيد، وإن مقامعها من حديد [3] . [ ص: 49 ]

            وكان إذا رجع إلى بيته آخر النهار، وهجم عليه الليل، وآوى الناس إلى فرشهم، فإن له شأنا آخر، إذ تبدأ جولة أخرى من محاسبة النفس، وقد يبدو له من عمله وهواجسه ما يزيده خوفا من الله، فيتراءى له مشهد النار وهي تتأجج والعصاة يصطلون فيها ويصرخون من هول ما يلقون، فيندفع في البكاء، حتى رسمت الدموع على خديه (خطان أسودان) [4] أليس هو القائل: "لو نادى مناد من السماء: يا أيها الناس! لا يدخل النار إلا رجل واحد، لخفت أن أكون أنا ذلك الرجل" [5] .

            ومن ناحية أخرى، فإن عمر رضي الله عنه قد يغفل عن محاسبة نفسه، أو قد يفوته أمر ما، لذلك عمد إلى إعداد أمته وتدريبها على محاسبته، فخاطب الأنصار والمهاجرين في مجلس له فقال: "أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا، فقال ذلك مرتين أو ثلاثا، فقال بشر بن سعد: لو فعلت ذلك لقومناك تقويم القدح! فقال عمر: أنتم إذا، أنتم إذا" [6] ، يريد بذلك: أنتم الرجال حقا، أنتم الصادقون حقا، أنتم المؤمنون حقا. وهذا المنهج قد لا تجد نظيرا له، بل ربما شاع العكس من ذلك، فنجد الحكام يدربون أممهم ويروضونها لتكون خانعة راضية مستسلمة لكل أمر، لا تحسن محاسبة أحد.

            وحتى تبقى جذوة الخوف من الله متقدة كان عمر رضي الله عنه يعمد إلى من يخوفه من الله تعالى ويذكره به، فكان يقول لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه : [ ص: 50 ] ذكرنا [7] ؛ ويقـول لكعـب الأحبـار: ياكعب خوفنا [8] ؛ أن يحـدثه عن النار وعذاباتها وشقـاوة أهلها وتعاسة أحوالهم، ثم يقول له: يا كعب حدثنا عن المـوت [9] . وكان إذا مرت به آيات العذاب اشتد بكاؤه [10] . لذلك فإن عمر رضي الله عنه كان إذا هم بأمر ثم ذكر بالله تعالى أمسك خوفا وحياء من الله تعالى، فقد هم بضـرب أحـدهم بالدرة التي يحملها، فقال له هذا: أذكرك الله، فطرح الدرة من يده، وقال: لقد ذكرتني عظيما [11] . إذ من الطبيعي أن يتناغم وجله هذا من ربه مع سلوكه العام ليجعله مستقيما مع أوامر الله تعالى ونواهيه، ثم لينعكس ذلك على سياسته في إدارة شؤون الأمة، فليس عمر رضي الله عنه من النوع الذي يخشى الله في العلانية ثم يخالف ذلك في سره، فـ"عمر ليس له ظاهر وباطن، وليس له سياستان سرية ومعلنة، وليست له جملتان، واحدة لنفسه وأخرى للناس" [12] ، فلا ازدواجية في السلوك، ولا معايير مزدوجة في التعامل، إنه الصدق والثبات عليه والقوة فيه، وكل ذلك جاء ممزوجا بالإخلاص المطلق لله تعالى وحده. [ ص: 51 ]

            كل ذلك وعمر رضي الله عنه لا يزكي نفسه، فقد أودع النبي صلى الله عليه وسلم عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه خبر المنافقين، فتحين عمر رضي الله عنه الفرصة واستحلفه: "أنشدك الله! هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقال: "لا.. ولا أزكي بعدك أحدا" [13] .

            لقد أصبح عمر رضي الله عنه مدرسة في الورع، والورع ترك الشبهات، وتركك ما لا يعنيك، بل إن الصحابة، رضي الله عنهم، آثروا ترك بعض الحلال خوفا من الوقوع في الشبهات. أتوا إلى عمر رضي الله عنه بمسك، فأمر بقسمته بين المسلمين بحضرته، فسد أنفه حتى لا يشم رائحته، فسألوه عن ذلك؟ فقال: وهل ينتفع إلا برائحته؟ [14] ، فآثر أن لا ينتفع بهذه الرائحة ولا يتمتع بها؛ لأن هذا المسك هو نصيب المسلمين وليس من نصيبه هو.

            وقد يبدو المشهد مثاليا وفيه قدر من التكلف والتصنع، لكنه كان يروض نفسه على ما هو أعظم من ذلك، وهكذا فإن الورع لا بد من أن يبدأ من أيسر الأمور وأهونها، وذلك عينه ما يجعل ولي الأمر عفيفا وأمينا على مصالح الأمة وحقوقها.

            ومن مظاهر ورعه رضي الله عنه أنه لم يخص نفسه بذلك، بل شمل أهله أيضا، فقد فضل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله في العطاء، فلما تعجب عبد الله رضي الله عنه من ذلك قال له: فعلت ذلك لأن زيد بن حارثة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، وأن أسامة كان أحب إليه منك أيضا [15] . وهكذا كان عمر رضي الله عنه يقيس الأمور ويزنها بميزان مرضاة الله تعالى. [ ص: 52 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية