الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            ثالثا: أخلاقيات التعامل مع العدو في الميدان:

            ولقد عبرت أخلاقيات المسلمين في التعامل مع عدوهم في الميدان على عمق الروح الإنسانية التي امتلكوها، بما يؤكد أن حروبهم وجهادهم لم تكن أهدافها التدمير والإبادة، بل من شأنها الهداية وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. فكان أول ما ميز حروبهم أنها تبدأ بدعوة الخصم إلى الإسلام، فإن قبلوا هذه الدعوة فإن ذلك يعني أن يحل السلام بين الطرفين بدلا من الحرب، لذلك كان عـمر رضي الله عنه يكتب إلى قادته بهذا الشأن، فكتب إلى سعد رضي الله عنه : "إني قد كنت كتبت إليك أن تدعو الناس إلى الإسلام ثلاثة أيام، فمن استجـاب لك قبل القتال، فهو رجـل من المسلمين، له ما للمسلمين، وله سهم في الإسـلام..." [1] ؛ وكتب إلى سلمة بن قيس الأشجعي: "سر باسم الله، قاتل في سبيل الله من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال؛ ادعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة، وليس لهم في فيء المسلمين نصيب، وإن اختاروا أن يكونوا معكم - أي في القتال - فلهم مثل الذي لكم..." [2] .

            ففي هذه الرسائل نرى مضامين تؤكد الجوانب الأخلاقية والعملية - في آن واحد - في سياسة عمر رضي الله عنه ، وهي منبثقة من معطيات الشريعة الإسلامية، فليس القتال من أجل فيء أو غنيمة في جوهره، بل هو قتال في سبيل الله ومن [ ص: 140 ] أجل دعوته، فإذا أخذ هذا الأمر مداه، انقلبت المعادلة والمعايير، فيغدو الذين كانوا بالأمس عدوا إذا هم إخوة في الدين إذا قبلوا الدخول تحت قبة الإسلام، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم من الحقوق والواجبات.

            ومن أبرز الأمور التي حرمـها الإسلام الغدر بالعدو والتمثيل بقتلاهم، فقد كتب إلى قادته: "... ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين... ولا تمثلوا عنـد القـدرة، ولا تسـرفوا عند الظهـور... ولا تقتـلوا امرأة ولا هرما ولا وليدا..." [3] . ومن الأمور الملفتة للنظر هنا هو عدم الإسراف والإيغال في القتل في ميدان القتال، فإذا ما لاحت هزيمة العدو وتأكدت فينبغي رفع السيف، ويدخل في ذلك عدم التمثيل بالقتلى بأي شكل من الأشكال، فللميت حرمة لا بد من مراعاتها، فهذا الميت لم يعـد له ضرر أو ما يتخوف منه، وبالتالي ليس هناك ما يسوغ التمثيل به. ويدخل في هذا السياق أيضا عدم قتل النساء والأطفال والشيوخ. كما أكد عمر رضي الله عنه عدم قتل (الرجال) من المدنيين الذي لا طول لهم في الحرب "... واتقوا الله في الفلاحين" و"...الذين لا ينصبون لكم الحرب" [4] فإن هؤلاء لا يملكون سببا، ولا أتوا مأثما يدعو إلى قتلهم، فإن قتلوا فإن ذلك يقع في باب (العدوان) الذي نهى عنه الإسلام كثيرا.

            كما أن عمر رضي الله عنه نهى عن قتل من طلب الأمان أو من منحه المسلمون الأمان؛ وهدد عمر رضي الله عنه بشدة من يقترف مثل هذا الأمر، فقد كتب إلى قادته: [ ص: 141 ] "والذي نفسي بيده لو أن أحدكم أشار إلى السماء بإصبعه إلى مشرك، ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله، لقتلته به" [5] ؛ لأن ذلك إن وقع فهو من قبيل الغدر المنهي عنه شرعا. ثم كتب عمر رضي الله عنه مرارا يبين لهم الأشكال والصيغ التي يمكن لأحد أفراد العدو طلب الأمان بها والاستسلام، حتى لا يخطئوا في التعامل معه، فأية إشارة أو كلمة يفهم منها العدو أنها دعوة للأمان فهي أمانه "... فإن لاعب أحد منكم أحدا من العجم بأمان، أو قرفه بإشـارة أو بلسـان، فكان لا يدري الأعجمي ما كلمه به، وكان عندهم أمانا، فأجروا له ذلك مجرى الأمان" [6] . ولا يشك أحد في أن ذلك يحمل أسمى المعاني والدلالات، فإن المقاتل المسلم لا يحمل معه الروح العدوانية، بل إنه لا يحمل سيفه وسلاحه فقط، بل يحمل في صدره الرحمة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم التي هدتهم إلى الإسلام، وينتظر منهم غيرهم أن يدعوهم إلى الدعوة التي دعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية