الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            ثانيا: الشورى وآليات صنع القرار:

            أولا وقبل كل شيء لا بد من إثبات حقيقة أساسيـة مفادها أن سر نجاح عمر رضي الله عنه ، وسر ما بلغه من نجاح وتفوق يعود إلى أخذه (الجدي) و (الواسع) بقاعدة الشورى، وإقامتها على كل جزئية من الجزئيات التي واجهته في إدارته البلاد.

            ورب سـائل يسـأل: لمـاذا هـذا اللجـوء المستفيض إلى الشورى؟ أليس بين يدي عمر رضي الله عنه كتاب الله وسنة رسوله، وفيهما الجواب الشافي عن كل ما يريد؟ فضلا عن أن عمر رضي الله عنه ليس ببعيد عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس ثمة متغيرات كثيرة. يمكن بيان ذلك كله من خلال المعطيات الآتية:

            أولها: إن الشورى فريضـة واجبـة، وقاعدة من قواعد العمل الإسلامي لا بد منهـا في كل شـأن لقـول الله تعـالى: ( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران :159) و ( وأمرهم شورى بينهم ) (الشورى:38) ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 106 ] على ما كان عليه من نزول الوحي لم يفتر عن المشاورة في الأمور كلها، وعليه فأحرى بخلفائه أن يقتدوا به في هذا الجانب وهم الذين لا يوحى لهم.

            أما فيما يتعلق بالنص، فإن وجود النص لا يمنع من الشورى، فليست كل النصوص قطعية الثبوت أو قطعية الدلالة، وذلك ما يتطلب التحري والبحث والمشاورة، لذلك يمكن القول: إن عمر رضي الله عنه قد اختار ما يمكن القول عنه: إنه اجتهاد جمعي مؤثرا إياه على الاجتهاد الفردي، سواء أكان ذلك في الأمور الشرعية أم في أمور الحياة الفنية، وصولا إلى أفضل صيغ الفهم وأفضل القرارات والأحكام. وكانت لعمر رضي الله عنه وسائل عديدة في التشاور، فهو استشار الناس تارة، واستشار مجالس الأنصار تارة، واستشار الأشخاص منفردين تارة ثالثة.

            فكان إذا طرأ عليه طارئ رقى المنبر وجمع الناس من حوله ليطلعهم على ما طرأ من مستجدات، ثم بين لهم وجه المعضلة التي تواجهه، أو أنه بحاجة إلى إنضاج أفضل للقرارات، ثم يسمح لهم بعد ذلك بإبداء آرائهم، وربما تكلم رجل من عامة الناس، وربما كان المتكلم أحد وجوه الصحابة، رضي الله عنهم، وهو في ذلك كله يصغي ويسمع.

            فلما خسر المسلمون معركة الجسر في العراق - وكانت قبل معركة القادسية - فلما بلغت عمر رضي الله عنه الأخبار أمر المنادي أن ينادي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إليه، فعرض عليهم الأمر، فسمع من الجميع، وكان الناس يقولون له: سر إلى العراق ونسير معك، إلا أن عمر رضي الله عنه كان له رأي آخر، ولكنه كره أن يخالفهم، فأمرهم بالاستعداد إلا أن يأتي رأي أفضل من ذلك [1] . [ ص: 107 ]

            وهكذا جمع الناس وشاورهم في الاستعداد لمعركة نهاوند [2] ، فضلا عن حالات أخرى عديدة جرت على هذا المنوال [3] ، وهذه الطريقة تشبه إلى حد ما آليات الاستفتاء العام أو استطلاع الآراء التي تجرى اليوم.

            وكان عمر رضي الله عنه إذا أشكل عليه أمر جمع بعض الوجوه والصحابة يستشيرهم، فربما خص مشيخة قريش بالمشورة [4] ، وربما خص المهاجرين بذلك [5] ، وربمـا خص أهل بدر بالمشـورة [6] ، أو قد يخص الأنصار بالأمر، كما مر بنا بشأن الأراضي المفتوحة، وفي أحيان أخرى يخص القراء الذين كانوا أصحاب مجالسه ، كهولا وشبابا [7] .

            وفي مرات أخرى كثيرة كان عمر رضي الله عنه يستشير الأشخاص، ممن عرفوا بالتجربة والخبرة ورجاحة العقل، وكان علي رضي الله عنه أبرز مستشاريه، حتى قال فيه: "أعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو الحسن" [8] . كما كان ابن عباس، رضي الله عنهما، من مستشاريه البارزين أيضا - على الرغم من حداثة سنه - حـتى أنه لما مرض ولازم الفراش عـاده وقـال له: "أخـل بنا مرضك، [ ص: 108 ] فالله المستعان!!" [9] . وممن خصه بالمشورة زيد بن ثابت رضي الله عنه [10] كما استشار عمر رضي الله عنه النساء ولا سيما عائشة، رضي الله عنها [11] ، لما لها من علم وفضل وملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم .

            إن من أهم الأمور التي تعكسها فلسفة الشورى كونها تعبر عن احترام الأمة، واحترام أهل الشأن فيها، فالاستبداد بالرأي يعكس نزعة تسلطية تظهر التفرد التام بالسلطة وإهمال الأمة بكل مكوناتها، وهذه مسألة فاقدة للاعتبارات الأخلاقية، في حين تجسد الشورى سلوكا أخلاقيا عالي المستوى، فلا احتكار للسلطة، ولا ترفع على الأمة، ولا ازدراء لها، فالأمة أدرى بمصالحها وحقوقها من خلال النخبة التي تمثلها من أهل الحل والعقد.

            أما المسائل التي شملتها شورى عمر رضي الله عنه فتتمثل بالجوانب الآتية:

            1- قضايا الإدارة العامة لشؤون الدولة مثل تعيين الولاة وعزلهم [12] ؛ والتصرف بالأموال العامة [13] ، إلى غير ذلك من الأمور.

            2- قضايا السلم والحرب، مثل الإجراءات المطلوبة إزاء المواقف الصعبة [14] ، واختيار القادة [15] ، وتوزيع الغنائم [16] . [ ص: 109 ]

            3- الأحكام الشرعية، مثل الأمور المتعلقة بالحدود [17] ، والتكبير على الجنائز [18] والدية [19] ، إلى غير ذلك من الأمور.

            ولأن الشورى أمر خطير يتعلق بمصير الأمة، لأنها تتناول قضايا مصيرية خطيرة، لذلك حرص عمر رضي الله عنه في شوراه أن يستند فيها على مبادئ تجعل الشورى فعالة ومثمرة وتسلك بالمسلمين المسلك الصحيح، فربما سعى بعضهم إلى استشارة من ليس أهلا للشورى بحثا عن الرأي، الذي يريده هو أصلا فيبحث عمن يعززه في نفسه، وهذا ما لا يمكن تسميته شورى، أما عمر، رضي الله عنه، فكان يبحث عمن يخاف الله تعالى أولا فذلك أحرى أن يكون صـادقا ناصحا في مشـورته، فكان يقـول: "شـاور في أمرك من يخـاف الله عز وجل" [20] .

            وكان عمر رضي الله عنه لا يحصـر الشـورى في كبار السن، بل كان يبحث عن الرأي الصحيح عنـد الأحـداث أيضا، وكان يقول مشجـعا الشباب على إبداء الرأي: "لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حـداثة السن وقدمـه، ولكن الله تعالى يضعه حيث يشاء" [21] ، لذلك [ ص: 110 ] كان يكثر من استـشارة الشبـاب "يبتـغي حدة عقولهم" [22] ، أو لأنهم "أحد قلوبا" [23] .

            ولم يكن اختيار عمر رضي الله عنه للرأي يستند إلى عدد أصحاب الرأي من حيث القلة والكثرة، بل يستند إلى قوة الدليل الذي يقدمه أصحاب كل رأي [24] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية