الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            رابعا: التعامل مع معطيات ما بعد الحرب:

            تنتهي المعارك في الميدان، إلا أن متعلقاتها تستمر في التفاعل في أكثر من اتجاه؛ الأسرى والغنائم ثم الجماعات التي تخضع لنفوذ الجماعات المتحاربة. كل ذلك بحاجة إلى التعامل معه وفي الإطار الأخلاقي الذي حكم الحرب في الميدان. إذ أن البناء الأخلاقي لأي جماعة يكون في العادة نسيج متجانس، يعكس الثوابت العامة للجماعة. وهكذا كان تعامل المسلمين مع متعلقات الحرب، وكما جسدها عمر رضي الله عنه في سياساته. [ ص: 142 ]

            فإن أبرز الإشارات التي جاءت من زمن عمر رضي الله عنه بشأن الأسرى والسبي تمثلت بمراعاة الاعتبارات الإنسـانية، وبما يعكس الرحمة التي جاء بها الإسلام، إذ أمر بعدم التفريق بين الأم وأطفالها [1] . أما موضوع الغنائم، فقد تقدم الحديث بشأن العفة والأمانة التي ميزت تعامل عمر رضي الله عنه مع المال العام ومنها الغنائم والفيء، وما نود أن نشير إليه هنا هو انعكاس هذه السياسة على سلوك المقاتلين أنفسهم إزاء الغنائم التي احتشدت أمامهم أكواما كأنها التلال، من ذهب وفضة وجواهر وحرير وكل شيء ثمين.

            فقد حرص عمر رضي الله عنه على تنبيه المقاتلين من الغلو في الغنائم [2] ، وكان يسأل المقاتلين إذا وفدوا عليه: هل ثبت لكم العدو؟ فإن قالوا: نعم، قال: قد غللتم إذن [3] ، وحتى لا يقع شيء من ذلك كان يؤكد دائما ضرورة العدل في قسمة الغنائم، فكتب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه : "فاقسم الغنيمة بين المسلمين، وفضل أهل السيف، واعط كل ذي حق حقه..." [4] ، فأصبحت العفة من أبرز سمات المقاتلين المسلمين، فقد قال جابر بن عبد الله بشأن المقاتلين الذين خاضوا غمار معركة القادسية: "والله الذي لا إله إلا هو، ما أطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر، فما رأينا كما هجمنا عليه مـن أمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معدي كرب، [ ص: 143 ] وقيس بن المكشوح" [5] ، فكان المقاتلون بذلك على أعلى درجـات الأمانة، ولم يكن فيهم أحد قد انحدر مستواه عن هذه القمة في الأمانة.

            وبعد فتـح مدينة توج من بلاد إيران تحدث أحد المقاتلين عن نفسه فقـال: كان علي قميص قـد تمزق، فأخذت إبرة وسلكا أخيط القميص بهما، ثم إني نظرت إلى رجل من القتلى عليه قميص فنزعته، فأتيت به الماء فغسلته، فلما جمعت الغنائم، قال قائد الجند: أيها الناس! لا تغلوا، فإنه من غل جاء بما غل يوم القيامة، ردوا ولو المخيط، فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته في الأخماس [6] ، مع أن هذا القميص كان سيبقى على صاحبه المقتول ويدفن معه، غير أن هذا المقاتل لم يرد التدنس بشيء حتى وإن كان شبهة.

            ومشهد آخر من مشاهد العفة، فقد حمل جندي مسلم على جنديين من الفرس فقتلهما وأخذ بغلين معهما يحملان أحمالا، فلم يفكر حتى أن ينظر إلى ما فيهما، فجاء بهما إلى صاحب الغنائم، الذي قال للجندي: على رسلك حتى تنظر معنا ما فيهما، فإذا سفطان فيهما تاج كسرى مقسما، وعلى الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى وفيهما من الديباج والذهب الشيء الكثير [7] ، فلم يندم القاتل أن جاء بهذه الأحمال من غير أن تمتد يداه إلى شيء منها، لقد كانوا - حقيقة - في شغل عن ذلك، لقد كانوا يجاهدون في سبيل الله. [ ص: 144 ]

            وهذه نماذج لأمثلة كثيرة تؤكد سلوك المسلمين هذا مع الغنائم، وكان سارية بن زنيم - أحد قادة الجند - قد فتح الله على يديه فسا ودار ابجرد، فأحب أن يهدي عمر رضي الله عنه سفطا فيه جواهر، بعد أن استوهبه من الجند، فوهبوه له ووافقوه رأيه، فبعث به برفقة رجل مع البشرى بالنصر، فلما بلغ عمر رضي الله عنه وأخبره الخبر عن السفط، صاح عمر رضي الله عنه : لا، ولا كرامة، حتى تقدم على أولئك الجند فتقسمه بينهم [8] .

            فلما عف عمر رضي الله عنه عف الجند أيضا، ولو رتع لرتعوا.

            هـكذا تكون تربية الأمـم، وهـكذا يكون إعدادها لرسـالتها ونهضتها الحقيقية.

            ومن المعطيات المهمة لمعارك المسلمين مع أعدائهم أن أصبحت تحت نفوذهم وسيادتهم أمما وشعوبا كثيرة من يهود ونصارى ومجوس وغير ذلك، فكيف نظر إليهم المسلمون؟ لقد عدهم المسلمون أهل ذمة، بمعنى أنهم في ذمة الله ورسوله، لا يحل لأحد العدوان عليهم، ولا إيذاؤهم بشكل من الأشكال في دينهم وأموالهم وأعراضهم، إلا ما كان بحقه. وكان عمر رضي الله عنه يرعى ذلك حق رعايته، حتى إنه كان من آخر ما أوصى به قبل وفاته قوله: "وأوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم" [9] . [ ص: 145 ]

            وأول الأمـور التي كانت محط احترام المسلمين في تعاملهم مع أهل الذمة احترام دينهم، ولا سيما أن الإسلام قد نص على أنه ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256) ، لذا فإن الدولة الإسلامية ضامنة لحقوق هؤلاء الدينية وحمايتها، وهكذا كان عهد عمر رضي الله عنه لنصارى بيت المقدس: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم - أي من المسلمين - ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم..." [10] . وهذا نص صريح التزم بحفظ الحقوق الدينية والمدنية لهؤلاء من دون أي تدخل فيها بأي شكل من الأشكال.

            وعلى المستوى الفردي، فقد كان عمر رضي الله عنه حريصا على دعوة أهل الذمة إلى الإسلام، لكنه لم يكرههم على ذلك، فقد كان له غلام يدعى آسق، دعاه إلى الإسلام، فلم يجب، فاعتقه وقال له: اذهب حيث شئت [11] .

            وكتب إلى بعض قادته يبين له كيفية مسيره بجنده، ومما جاء في ذلك: "... ونح منازلهم - أي الجند - عن قوى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ أحد من أهـلها شيئا، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بـها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صـبروا لكم فتولوهم خيرا، [ ص: 146 ] ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح" [12] ، وهي رسالة أكثر من بليغة وصريحة أكدت حقوق أهل الذمة والسير فيهم بالعدل ونفي الظلم عنهم. فهم الآن رعية من رعـايا الدولة ومواطنون فيها لهم من الحقوق والواجبات ما يجب احترامه والالتزام به. وهو ما يعكس الرؤية الحضارية العميقة لدين الإسلام التي سبقت كل الحضارات في صياغة حقوق الآخرين ورعايتها خير رعاية، انطلاقا من اعتبارات أخلاقية وشرعية ترى في الإنسان - أيا كان - حرمة لابد من رعايتها، ولم يقتصر ذلك على الجانب النظري فحسب، بل صدقه الجانب العملي والميداني.

            ولذلك فإن عمر رضي الله عنه (تبرأ إلى أهل الذمة من معرة الجيش) [13] ، فالجيش يضم أفرادا كثيرين، مستوياتهم وثقافاتهم وتدينهم أمور مختلفة، فقد يقع من بعضهم شيء من الأذى إزاء أهل الذمة، فإن عمر رضي الله عنه يعلن براءته من ذلك، أي أنه لم يأمر بمثل ذلك.

            ومن ناحية أخرى قدم على عمر رضي الله عنه أحد القادة الجند، فأخبره أن ثمة مدينة بينهم وبين العدو تدعى عربسوس، يتعاون أهلها مع العدو ويزودونه بالمعلومات عن المسلمين. فقال له عمر رضي الله عنه : إذا قدمت عليهم فخيرهم بين أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين، ومكان كل بقرة بقرتين، ومكان كل شيء شيئين، فإذا رضوا بذلك فوف لهم وأجلهم عن مدينتهم، فإذا رفضوا ذلك [ ص: 147 ] فانبذ إليهم - أي حذرهم - واعطهم مهلة سنة، ثم خربها [14] . ولا ريب في أن ذلك يعكس درجة عالية من التسامح والتفهم والكرم في طريقة التعامل - في ظروف الحرب - مع من كان عونا للعدو.

            وفي جـانب آخر فإن العدل الذي كان أساس سياسة عمر رضي الله عنه لم يغب عن أهل الذمـة، فالأسـاس الأخـلاقي للعدل لا يسعه أن يستثني أحدا منه؛ فقد اختصم يهودي ومسلم إلى عمر رضي الله عنه ، فرأى عمر رضي الله عنه أن الحق لليهودي، فقضى له [15] . [ ص: 148 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية