الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            ثانيا: توافر عمر رضي الله عنه على الكفاءات اللازمة:

            عند إنعام النظر في تكوين عمر رضي الله عنه تجده يتوافر على جملة من القدرات والكفاءات الفائقة مكنته من إدارة دفة الحكم وتوجيه السياسات العامة بما يحقق أعلى مستوى من الأداء في عمل جهاز الدولة. وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة للمستشارين والمساعدين في الارتقاء بالعمل، إلا أن ذلك لا يغني عن الكفاءة الشخصية لمن يتقلد أمر الأمة. وقد تجلت كفاءة عمر في جوانب ثلاثة رئيسة تمثلت بذكائه وعلمه وقدرته على الابتكار والتحديث.

            فبصـدد ذكائه وفطنته قـال عمر رضي الله عنه عن نفسه: "لست بخب، والخب لا يخدعني" [1] . وفي هذا السياق أيضا فإن عمر رضي الله عنه لم يكن الكذب ليمر عليه، فقال عنه الحسن البصري: "إن كان أحد يعرف الكذب إذا حدث به إنه [ ص: 35 ] كذب فهو عمر بن الخطاب" [2] . فكان إذا حدثه رجل بحديث يقول له: "احبـس هذه، احبس هذه، فيقـول الرجـل: كل ما حدثتك به حق، غير ما أمرتني أن أحبسه" [3] . وأهمية الفطنة والذكاء لولي الأمر شأن ضروري ولازم حتى يدرك ما ينبغي عليه من سياسـات، وحتى لا يستغل من بطـانته، وحتى لا يستدرج - ومعه الأمة - إلى منزلق قد تكون وراءه خطورة كبيرة.

            ومن مظاهر فطنة عمر رضي الله عنه سبره الأغوار وإدراكه لحقيقة ما وراء ظواهر الأمور، فقال عن نفسه مثلا: "إذا لم أعـلم إلا بما رأيت فلا علمت" [4] ، فهو لا يكتفي بالمشاهدات والمرئيات، بل لا بد من القدرة على فهم ما خفي وراء هذه الظواهر، وذلك ضروري للقرارات والسياسـات السديدة، فالاستسلام لما يظهر على أنه حقيقة يجر الأمور إلى غير مجراها الحقيقي. وفي هذا السياق أيضا امتاز عمر رضي الله عنه بفراسته في سبر أغوار الأشخاص، ولذلك أمثلة عديدة، نختار منها الآتي: فقد استعرض جيشا متجها إلى جبهة العراق، فمرت عليه جماعة من الجند، فأعرض عنهم، ثم أعرض ثم أعرض، حتى قيل له في ذلك، فقال: "إني عنهم لمتردد، وما مر بي أقوام أكره إلي منهم، ثم أمضاهم، فكان فيهم سودان بن حمران، الذي قتل عثمان رضي الله عنه ، وإذا فيهم حليف لهم يقال له ابن ملجم هو الذي قتل عليا رضي الله عنه " [5] . طبعا لا يمكن الركون إلى الفراسة [ ص: 36 ] وحدها تماما، غير أن ذلك مما يعين ويساعد - مع عوامل أخرى - على فهم الأمور والرجال بشكل فعال، وضعف الفراسة ينبئ عن ضعف عام أيضا.

            أما بشأن علم عمر رضي الله عنه ، فقد كان مميزا بين الصحابة في سعة علمه، فقد كان حريصا على أن لا يفوته شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما استطاع إلى ذلك من سبيل، إذ كان يتناوب مع جار له على الجلوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه، موازنة بين العلم والعمل [6] ، فحاز عمر رضي الله عنه على العلم الذي جعله أول السبعة الذين اشتهروا بالفتوى من الصحابة وهم: عمر وعلي وابن مسعود وعائشة وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر، رضي الله عنهم [7] . ومن الشهادات التي قيلت في علمه: قول ابن عباس، رضي الله عنهما: لو وضع علم عمر في كفة، ووضع علم الناس في كفة لرجح علم عمر؛ وقول معاذ رضي الله عنه : إن أعلم الناس بفريضة - أي الإرث - وأقسمهم لها عمر؛ وقول سعيد بن المسيب: ما أعلم أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر؛ وقول الشعبي: من سره أن يأخذ بالقضايا، فليأخذ بقضاء عمر، فإنه يستشير [8] ؛ وقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : علم الناس مدسوس في جحر مع علم عمر [9] .

            وإذا كانت هـذه الشهـادات بشـأن فقـه عمـر، فإن نجـاحـاته السياسيـة والإدارية والعسكرية وغيرها تؤكد أن علمه لم ينحصر في فقهه، [ ص: 37 ] بل انضاف إليه علم ومعرفة وخبرة في جوانب كثيرة كونت شخصيتـه الفذة هذه. وهذا ما يؤكد ضـرورة التـلازم والتوازن بين العـلوم الشرعية والعـلوم التي تبنى بـها جوانب الحياة المختلفة مما يشكل "أمور دنياكم". وأن الخـلل في هـذا التوازن لا بد من أن ينجـم عنه فشل مشروع النهضة، وما تموج به الأمة اليوم من إخفاق حاد ناجم - في أحد جوانبه - عن إهمال القـائمين على أمر الأمة للتصور الشرعي لحياة المجتمع والدولة، بل إن ذلك جاء في السياق العام للتصدي للإسلام وعزله عن صناعة الحياة بعامة وليس السياسة فقط.

            أما بخصوص مقـدرة عمر رضي الله عنه على التطـوير والتحديث، فقد تجلت في سياق إدارته للـدولة التي أثبت فيهـا عمر رضي الله عنه مقدرة فذة على تطوير عمل الـدولة إداريا وسياسيا، حتى باتت الدولـة على درجة عالية من الكفـاءة في أداء واجباتـها ومهـامها. فكان من ذلك مثلا أن عمر رضي الله عنه أول من دون الدواوين [10] . وكانت هـذه الدواوين خـاصة بالجنـد. ثم إنه أنشـأ دواوين الخراج والجباية المـالية، وذلك من خلال إقرار التشكيلات التي كانت قائمـة في البـلاد قبل فتحـها. وذلك ما يشكل التفاتة مهمـة من عمر رضي الله عنه الذي أدرك كيفية التفاعل مع المعطيات الحضارية المختلفة للحضارات الأخرى، في ظروف بالغة التعقيد والدقة، وبما لا يتقاطع مع الأحكام الشرعية للإسلام. [ ص: 38 ]

            ومن الجوانب والوظائف التي استحدثها عمر رضي الله عنه أيضا استحداث موظف مسؤول عن الحمى [11] ووظيفة صاحب الأقباض المشرف على الغنائم في الجيوش [12] ، ووظيفة الكاتب الذي يرافق الجيش أيضا [13] ، ورتب وظيفة العاشر المسؤول عن جباية الضرائب المفروضة على تجار دار الحرب [14] ، واستحدث وظيفة خازن بيت المال [15] ، ووظيفة (العامل على البحر) واستحدث الحبوس أيضا [16] ، كما اتخذ (دار الدقيق) التي تخزن فيها المواد الغذائية من دقيق وسويق وتمر وزبيب لإعانة من يحتاج إلى ذلك [17] .

            وعمر رضي الله عنه ، أول من اتخذ التاريخ، وجعل من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أساسا للتاريخ [18] . وهـو أول من اتخـذ العرفاء لمعاونته على النظر في أمور الناس، ولا سيما عند البعوث وتوزيع العطاء [19] .

            إن أمثال هذه الإجراءات وغيرها، عبرت عما تمتع به عمر رضي الله عنه من قوة، لا أعني القوة المادية، بل قوة الفكر والقدرة على التنظيم وعلى القيادة وعلى [ ص: 39 ] تحمل المسـؤوليات بما أهله لتولي أمر الأمة على أفضل مستوى من الأداء، فحق له أن يقـول: "لو علـمت أن أحـدا من الناس أقوى على هذا الأمر مني لكنت أقدم فيضرب عنقي أحـب إلي من أن أليه" [20] ، ليس غرورا منه ولا إعجابا بنفسـه، بل ثقـة بقدراته التي يعرفها حقا، وصدقها الواقع التاريخي، كما أن ذلك يأتي في سياق معرفته بنفسه، إذ من الحمق أن يكون المرء عارفا ولا يعرف أنه عارف.

            إن هذه المواصفات التي قدمناها بشأن شخصية عمر رضي الله عنه : الفطنة والعلم والكفاءة تؤشر حقيقة ما ينبغي أن يتصف به ولي الأمر، فالخيرية لا تقتصر على الجانب الديني، بأن يكون صالحا في دينه. كما إنها لا تقتصر على الكفاءة في أمور الحياة العملية، بل لا بد من التوافر على الجانبين معا بشكل متوازن، وذلك ما أوجزه قول الله تعالى: ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) (القصص:26).

            التالي السابق


            الخدمات العلمية