الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            رابعا: عمر رضي الله عنه بين رعيته وولاته:

            لا بد لمعطيات الحياة اليومية من أن تنكشف عن عدد من المشكلات بين الرعية وولاتها، إذ لا يمكن افتراض ديمومة علاقة من الرضى والقبول بين الطرفين على طول الخط، فمهما كانت الأجواء مثالية فلا يمكن للحالات السلبية أن تنتفي، فقد جبل البشر على طباع شتى، وكل واحد منها يجد لنفسه مرتعا خصبا، وأية حـالة سلبية تطفو على سطح العـلاقة بين الرعية والولاة إنما هي انعكاس لظلم أو تعد وقع من الولاة، فمن النادر أن تجتمع الرعية على ظلم واليها. لذا فإن عمر رضي الله عنه يجد نفسه أمام حالة تستدعي التحري والمعالجة من دون إبطاء. لا بل إن هذه العلاقة بين الطرفين - الرعية والولاة - كانت شغله الشاغل على الدوام، فالرعية هناك بعيدة عنه وليست تحت إشرافه المباشر، والولاة من جانبهم هم من البشر، ليس هناك ما يعصمهم من الزلل إلا الله تعالى وحده، فما هي منهجية عمر رضي الله عنه في تعامله مع هذا الأمر؟ [ ص: 117 ]

            تمثل الإجراء الأول لعمر رضي الله عنه في هذا الجانب في عقد مؤتمر سنوي لعماله، فقد كان من سنته أن يوافيه هؤلاء في موسم الحج للاجتماع بهم ومدارسة أحوال الأمة وما تحتاجه من سياسات [1] ، وليكون هذا المؤتمر شعارا معروفا عند جماهير الأمة، فمن كانت له عند واليه مظلمة وافى هو أيضا في الموسم ليعرض مظلمته، من غير أن يعني ذلك أن أبواب عمر رضي الله عنه كانت موصدة في أيام العام الأخرى، وهكذا كان يجمع بين الأطراف كلها للفصل في مظالمها [2] .

            الأمر الثاني الذي كان يعمـد إليه عمر رضي الله عنه إذا جاءته شكاة تجاه عامل من عماله هو تحري الأمر ميدانيا وعن كثب، معتمدا أوثق رجاله وأكفأهم وأكثرهم جرأة على اقتحام المصاعب، فكان محمد بن مسلمة رضي الله عنه رجل هذه المهمات، فهو "صاحب العمال الذي يقتص من شكي زمن عمر" [3] ، بل إنه كان لا يكتفي به في بعض الأحيـان، بل يرسل رجالا آخرين للتحري والسؤال على أوسع نطاق ممـكن [4] ، لتحقيق الاستقراء المناسب الذي يفضي إلى قرار عادل.

            ثم إنه كان يعمد إلى الجمع بين عماله ومن اشتكاهم، فإن صح عليهم أمر أخذهم به [5] ، إذ يقضي المنطق العادل عدم الإصغاء إلى طرف من دون الطرف [ ص: 118 ] الآخر، بما يتيح للمتهم الدفاع عن نفسه، ولتعجيل العقوبة عليه إذا ثبت ظلمه لصاحب الشكوى، فقد كان من سياسته تعجيل العقوبة لردع الآخرين عن الوقوع في ظلم الرعية، كما أن ذلك يعزز ثقة المواطن بالدولة تلك الثقة اللازمة والضرورية لبناء علاقات تواصل سليمة بين الطرفين. وفقدان ثقة المواطن بالدولة قد تحيله إلى آليات أخرى في استحصال حقه يمكن أن ينجم عنها فوضى وفساد الأحوال التي تجر عاقبة وخيمة على الجميع.

            وقـد تقـدمت الإشارة إلى نماذج من الشكايات قدمها مواطنون إلى عمر رضي الله عنه ، فتعامل معها على وفق المنهج المتقدم ذكره. ومن الشكايات التي بلغته أيضا أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يجلس في بيته للقضـاء بين الناس ولا يجلس في المسجد، فأرسل عمر رضي الله عنه من يتحرى الأمر، وأمر - إذا تبينت حقيقة الدعوة - أن يحرق عليه باب بيته، ثم يجلسه في المسجد للقضاء، ففعل الرسول ما أمر به [6] . وهكذا يبدو أيضا أن عمر رضي الله عنه كان حازما وصارما في عقوبته لعماله ليكون ذلك رادعا قويا يمنع وقوع المظالم.

            وثمة مسألة تبرز في الإطار العام لتعامل عمر رضي الله عنه مع الشكاوى المقدمة إليه، وهي أنه كان يعطي للرعية من الأهمية والمكانة أكثر مما يعطيه لعماله وولاته، حتى بلغ الأمر حد الاقتصاص منهم أمام الرعية، لولا العفو الذي يتغلب أحيانا في اللحظات الأخيرة من المشهد، إذ يعفو المشتكي عمن ظلمه، فقال بعض الدارسين: "إنه كان يبالغ في حفظ حقوق الناس، ويعطيهم أكثر [ ص: 119 ] مما لهم على حساب الولاة"، ثم أضاف: "وأنا لا أستطيع أن أكتم رأيي في هذه الخطة، وأنها خطة خطرة لأنها تضعف سلطان الولاة، وتجمع السلطة كلها في يد واحدة، ولم يظهر خطرها على عهد عمر، لأنه كان في قوته وعبقريته من فلتات الدهر، ولكن ظهر هذا الخطر لما ولي الخلافة من هو أقل قوة وعبقرية من عمر، فتسلط الناس، وقوي أهل الشغب" [7] .

            لاشك في أن تعليقا من هذا النوع شديد الأهمية والخطورة، فهذا التعليق على الرغم مما يبدو فيه من عقلانية، غير أن ما يجب تقريره أيضا أن في سياسة عمر رضي الله عنه هذه ما يشكل حاجزا وقائيا يمنع الولاة من الانزلاق إلى هاوية الظلم والعدوان، فلا يقعوا عندها تحت طائلة الاقتصاص الذي كان يصر عليه عمر رضي الله عنه . فالخلل إذن ليس في سياسة عمر رضي الله عنه ، بل فيمن تحدثه نفسه في الانجرار نحو الظلم.

            ومن ناحية أخرى فإنه ليس من المناسب أن يتراجع الحاكم عن سياسة يراها مناسبة لتحقيق العدل والمصلحة في الأمة، وهي كذلك، خوفا من أن يأتي آخر بعده لا يستطيع النهوض بمثل هذه السياسة، فماذا يعني ذلك من الناحية العملية، يعني ذلك ببساطة الآتي: إن الناس قد عهدوا في عمر رضي الله عنه شخصا قويا له نفوذ وسطوة، فإن تراخى قليلا طمع الناس فيه، من الولاة والعمال وغيرهم من سواد الرعية، فإذا جاء بعده من لم يكن بقوته، كان طمع الناس فيه أكبر، إذ سيقول هؤلاء: إذا كان القوي متراخيا، فكيف سيكون حال من ليس [ ص: 120 ] بقوته؟! وعليه فإن المشكلة لا تكمن في القوي وسياساته، بل إنها تكمن في من لم يكن قويا كعمر رضي الله عنه !

            التالي السابق


            الخدمات العلمية