الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            رابعا: عمر رضي الله عنه في مواجهة عام الرمادة:

            في عام (18 هـ) أصاب الجفاف منطقة الحجاز، ودام ذلك تسعة أشهر، وسمي ذلك العام بعام الرمادة، لأن الريح كانت إذا هبت حملت معها ترابا كالرماد، أو لأن الأرض صارت سوداء كالرماد [1] . أجدبت البلاد، وهلكت الماشية، وجاع الناس وهلكوا، حتى كانوا يستفون الرمة، وبحثوا عن اليرابيع والجرذان لأكلها [2] . إذن أصاب الناس الجهد والبلاء والجوع، وترك ذلك أثره على عمر رضي الله عنه بينا حتى قال مولاه أسلم: "لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت هما بأمر المسلمين" [3] ، فقد فرض عمر رضي الله عنه على نفسه برنامجا صارما، فعايش الناس في أزمتهم حتى لا ينسى ولو للحظة حالهم ومعاناتهم، فهو المسؤول عنهم جميعا، وعلى عاتقه وحده يقع عبء معالجة أزمتهم هذه. بل إن الصرامة التي فرضها على نفسه شمل بها أهل بيته أيضا، فقد كان لابنه عبيد الله بهيمة صغيرة، فذبحت وجعلت في التنور، فإذا رائحتها تداهم أنف عمر رضي الله عنه ، فقال: ما أظن أحدا من أهلي يجترئ علي، فأمر مولاه أسلم أن يستعلم الأمر، فلما علم أسلم الحقيقة، قال له عبيد الله: استـرني سترك الله، قال أسلم: قد عرف حين أرسلني أن لن أكذب عليه، ثم ما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن منعها عنه وجعلها للمسلمين [4] . ونبع ذلك من صدقه تجاه الأمة، إذ لابد [ ص: 93 ] لأهله من أن يكونوا في الجلد والإيثار، وأن لا يكون هناك ما يميزهم من سائر الأمة في شيء من الامتيازات، فإذا وضعوا أنفسهم فوق الناس ومعاناتهم فإن ذلك ليس من الخلق الكريم وليس من دين الله في شيء.

            ثم اتخذ بعدها سلسلة من الإجراءات لمعالجة هذه الأزمة تمثلت بالآتي:

            1- تشكيل خلية أزمة ضمت عددا من الأشخاص الأكفاء، ووزع بينهم الأعمال، ثم كانوا يلتقون بعمر رضي الله عنه عند كل مساء لإطلاعه على ما قاموا به [5] . وهو ما عبر عن سعـة أفق عمر رضي الله عنه في التعاطي مع الأزمات الحـادة، إذ لا يسع الفرد - مهما بلغ من الكفاءة - أن يتصدى بمفرده لهذه الأزمات، فلا بد من الاستعانة بالآخرين من أصحاب الكفاءة، ومن باب إشراك الأمة في قضاياها أيضا.

            2- إطعام الناس مما هو متاح، فقد سارع عمر رضي الله عنه إلى جمع ما أمكن جمعه من طعام من السوق المحلية والأسواق القريبة لإطعام الناس، ولا سيما الأعراب منهم الذين نزلوا أطراف المدينة [6] .

            3- الكتابة إلى الأقاليم بإمداده بالطعام، فقد كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه عامله على مصر: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين ...، سـلام عليك، أما بعد، أفتراني هـالكا ومن قبلي، وتعيش أنت ومن قبلك، فيا غوثاه، ثلاثا" فكتب إليه عمرو بن العاص رضي الله عنه إنه سيغيثه بمدد من القوافل أولها في المدينة وآخرها في مصر [7] . وكتب بمثل ذلك إلى الأقاليم الأخرى. [ ص: 94 ]

            4- التآسي في العيش: ثم خطط عمر رضي الله عنه لإجراء آخر وهو أن يجعل مع كل أهل بيت من أهل المدينة مثلهم من الأعراب إلى أن يفرج الله عنهم [8] . فيقتصد الجميع في العيش على أنصاف بطونهم "فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم" [9] .

            5-مراعاة ظروف الجفاف عند جباية الزكاة: فقد أخر عمر رضي الله عنه جباية الزكاة في عام الرمادة، فلما كانت السنة التالية، ورفع الله الجدب عن الناس، أرسل السعاة للجباية، وأمرهم بأخذ نصيبين من الزكاة، فيقسمون نصيبا ويأتوه بالآخر [10] ، ليكون ذلك احتياطيا عنده للحاجة.

            6- اتخاذ دار الدقيق: فقـد أنشأ دارا لتخزين الدقيق والسويق والتمر والزبيب، وما يحتاج إليه من طعام يمكن تخزينه إعانة للمنقطع وابن السبيل [11] .

            7- منع الاحتكار: فقد حاول بعض التجار استغلال هذا الظرف الطارئ من أجل التربح على حساب إخوانهم من المسلمين، فتصدى عمر رضي الله عنه لذلك [12] ، وقال: "لا حكرة في سوقنا"، ومنع أصحاب الأموال من الاجتماع على بضاعة والمضاربة عليها دون سائر الناس، وقال: "لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله" [13] ، وهو إذ يمنع [ ص: 95 ] الاحتكار، لكنه شجع الجالب، الذي يجلب بضاعته من خارج الإقليم للبيع بحريته، تنشيطا للتجارة الخارجية وما فيها من فوائد كبيرة.

            8- الخروج إلى صـلاة الاستسقاء: كما خرج عمر رضي الله عنه ومعه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الاستسقاء وخرج معهم العباس رضي الله عنه ، فخطب وأوجز، ثم صلى، ثم جثى على ركبتيه وقال: "اللهم إياك نعبد، وإياك نستعين، اللهم أغفر لنا وارحمنا وارض عنا" [14] ثم انصرف، فما بلغوا منازلهم حتى خاضوا في الغدران.

            وهكذا نجد عمر رضي الله عنه يفكر بعمق، يخطط بأفق استراتيجي، يستشعر الأمور في كل جزئياتـها، ولا يفوته العلاج الروحي، باللجوء إلى رب العزة، فهو المعبود لا سواه، المعطي بلا حدود، يوحد ربه ويتوسل به إليه، فكانت الإغاثة والإجابة سريعة. [ ص: 96 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية