الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            ثانيا: مبادئ القتال عند عمر رضي الله عنه :

            كانت الوصايا للقادة عند توجههم للقتال من الأعراف الإسلامية المهمة، سار عليها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده بقية الخلفاء، ولم تكن هذه الوصايا كلمات منمقة وحسب، بل إنها مثلت في الحقيقة بيانا شافيا تضمن استراتيجيات العمل العسكري وأخلاقياته والأسس الواجب مراعاتها بما يوفر عقيدة عسكرية تشكل أرضية مهمة لعمل الجيش في الإسلام، وكان لعمر رضي الله عنه نصيب وافر بين هذه الوصايا، شفهية ومكتوبة، وهي على العموم دارت حول محورين؛ مبادئ القتال الأخلاقية، ومبادئ القتال الفنية والمهنية. [ ص: 134 ]

            وفي إطار المحور الأول جاءت وصايا كثيرة سنشير إلى نماذج منها، فثمة رسالة وجهها إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وهي على درجة عالية من الأهمية، جاء فيها: "أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة للحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسـلمون بمعصية عدوهم لله، ولو لا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لن نغلبهـم بقوتنا، واعلمـوا أن عليكم في مسـيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهـم، ولا تعمـلوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعـولا، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله تعالى ذلك لنا ولكم..." [1] .

            هنا نبه عمر رضي الله عنه بعبارات موجزة بليغة على أن ميـزان القوى التقليدية - في العدد والعدة - ليس هو العنصر الحاسم في ساحات الحرب، فإن مشيئة الله تعالى هي التي ترجح بها الموازين، ولكن متى تقضي مشيئة الله في النصر؟ فذلك يحتاج إلى معايير أساسية في مقدمتها طاعة الله تعالى وعدم الوقوع في [ ص: 135 ] شيء من معصيته، وتلك حقيقة أدركها العديد من سلف الأمة ونبهوا عليها في خطبهم أيضا [2] .

            كان عمر رضي الله عنه ينبه على الدوام على مثل هذه الجوانب، فكان مما كتب به أيضا: "... واعـلم أن لكل عادة عتـادا، فعتـاد الخير الصبر، فاصبر على ما أصابك أو أنابك يجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة" [3] .

            وكتب إلى الجند أن يكثروا من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" [4] تعلقا باليقين الإلهي، فإن الله تعـالى مرجـع كل أمر، فلا يتم أمر إلا بإذنه وبحوله وقوته، وهذا من باب الأخذ بالأسباب القلبية التي هي الأصل. وكان ممـا أكده في رسـائله إلى قادته: "... فسر على بركة الله، واتـق الله ما استطعت، واحكم بالعدل، وصل الصلاة لوقتها، وأكثر ذكر الله" [5] ؛ وكتب أيضا: "تفقهوا في الدين، فإنه لا يعذر أحـد باتباع باطل وهو يرى أنه حق، ولا بترك حق وهو يرى أنه باطل" [6] ، إذ يرى عمر رضي الله عنه عمق الصلة الوثيقة بين الدين والجهاد - الحرب - فلا بد للجهاد من وسائله النبيلة التي [ ص: 136 ] تخلو من كل إثم ومعصية، ثم إن الحرب ليست ظرفا استثنائيا يسهم بالتحلل من الالتزامات الدينية، فمثل هذا التحلل يؤشر بدء الانحدار نحو هاوية الهزيمة.

            أما في محور مبادئ القتال الفنية والمهنية، فقد كان عمر رضي الله عنه يوصي قادته أو يكتب إليهم بتعليمات تحقق أفضل أداء للقتال، فكان مما كتبه إلى سعد رضي الله عنه أيضا: "... وترفق بالمسلمين في مسـيرهم، ولا تجشمـهم مسـيرا يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع. وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم... وإذا وطئت أرض العدو فاذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى صدقه ونصحه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه، والغاش عين عليك لا عين لك، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم، وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك... واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحدا بهوى... وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها بها، فتصنع بعدوك كصنعـه بك..." [7] . وتتضـمن هذه الرسالة بنودا كثيرة تشير إلى إدراك عمر رضي الله عنه للكثير من جوانب الحرب المادية والمعنوية والفنية. [ ص: 137 ]

            ومما كتبه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : "... لا تكثر عليهم الحرب في كل وقت فيملوها إلا أن يطلبوا ذلك منك، وألن لهم جانبك، وحطهم بنفسك، واعلم أن المسلمين في جوار الله عز وجل، وأن المسلم أعظم الخلق على الله حرمة، فلا يطلبنك الله بمظلمة أحد منهم، واحذر عليهم، واحفظ قاصيهم، وانصف مظلومهم، وخذ من قويهم لضعيفهم، وأصلح ذات بينهم، وألزمهم القرآن، وخوفهم - أي من الله تعالى - وامنعهم من ذكر الجاهلية وما كان فيها، فإنه يورث الضغينة ويدعو إلى الدخول والقطيعة" [8] ، وهكذا نجد عمر رضي الله عنه يوازن بين سلامة المقاتلين وحسن معاملتهم من جهة والحاجة إلى النصر من جهة أخرى؛ بل لابد للأمر الثاني من الأمر الأول، وإلا فإن الهزيمة بالمرصاد.

            وثمة رسائل ووصايا أخرى كثيرة تشير إلى أن عمر رضي الله عنه لم يغفل عن جانب من جوانب القتال التي تحقق التفوق المعنوي للمسلمين، الذي كان عند عمر رضي الله عنه العنصر الحاسم لتحقيق أي تفوق في ميدان القتال. وكل ذلك يؤكد أن النصر مرتبط أيضا بأخلاقية التعامل مع المقاتلين، إذ ليس هؤلاء كتلة بشرية وضعت في حساب الخسائر، فالنصر الحقيقي يتمثل في حفظ حياة المقاتلين عن طريق خفض منسوب الخسائر ما أمكن إلى ذلك من سبيل.

            ومن الأمور المهمة الأخرى التي انتبه عليها عمر رضي الله عنه ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية، ولا سيما الأسرية في حياة المقاتلين، فقد سمع امرأة تقول: [ ص: 138 ]


            تطاول هذا الليل واخضل جانبه فلولا حذار الله لا شيء مثله     وأرقني إذ لا خليل ألاعبه
            لزعزع من هذا السرير جوانـبه



            فعلم عمر رضي الله عنه منها أن زوجها قد غاب طويلا في جبهات القتال، وأدرك أن في الأمر ثمة مشكل، فبعد أن تحراه سعى إلى معالجته، وذلك بعدم إطالة مكث المقاتلين في جبهات القتال، فكان يراوح بينهم [9] ، وذلك من أجل إدامة حسن التواصل بين أفراد الأسرة، وإلا فإن الأمر قد يقود إلى ما لا ينبغي الوقوع فيه أخلاقيا. كما بلغه أن رجلين التحقا بالقتال، وأن أباهما شيخ كبير لا معين له، فردهما عمر رضي الله عنه ، وقال: لا تفارقاه حتى يموت [10] . وبلغه أن المقاتلين في العراق قد تغيرت أحوالهم، ولاسيما من الناحية الصحية، فاستفسر عن ذلك، وعرف أن السبب يكمن في البيئة التي أقاموا فيها، فأمر بإنزالهم في مكان يشبه بيئتهم، فوقع الاختيار على الكوفة [11] .

            فكل جزئية بحاجـة إلى مراجعـة ومتابعـة وتفحص بـما يقـود إلى تحقيق موازنات دقيقة في حياة الأمـة والدولة وما ينبغي تحقيقه من أهداف على صعد عديدة، وإلا فإن الفشل في جانب من هذه الجوانب قد ينذر بفشل مشروع الأمة برمته، وهذه أحد الأوجه التي تجسد جسامة الأمانة التي حملها عمر رضي الله عنه على عاتقه. [ ص: 139 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية