الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            ثالثا: زهد عمر رضي الله عنه :

            الزهد هو الإعراض عن رغائب الدنيا وملاذها - حلالها وحرامها - مع القدرة على إتيانها، على أن يكون ذلك تقربا إلى الله تعالى. وليس أحد أقدر على تناول هذه الملاذ مثل صاحب السلطة، فكل شيء طوع أمره ولا سيما أن الأمر يكتنف على قدر كبير من الإحساس باللذة وإسعاد النفس بتلبية حاجاتها التي تهفو إليها. بيد أن ذلك يجعل صاحب السلطة على مفترق طرق خطيرة [ ص: 40 ] جدا، فهذه الرغائب واللذائذ يستدعي بعضها بعضا حتى يبلغ الأمر بصاحب السلطة أن لا يتورع في دماء الناس، فإذا به يعتقد أنه يحي ويميت. وهنا مكمن الأهمية الفائقة للزهد، فهذا الزهد يرتفع بالمرء إلى مستوى الورع والخوف من الله تعالى، وهو ما سنأتي على بيان طبيعته.

            فهل كان عمر رضي الله عنه زاهدا، فلنسـتدع شهادة الشهود في ذلك، قال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه : "ما كان عمر بأولنا إسلاما، ولا أقدمنا هجرة، ولكنه كان أزهدنا في الدنيا، وأرغبنا في الآخرة" [1] وقال الحسن البصري: "ما فضل عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أطولهم صلاة، وأكثرهم صياما، ولكنه كان أزهدهم في الدنيا، وأشدهم في أمر الله" [2] . فكان عمر رضي الله عنه يقول: لولا مخافة الحساب لأمرت بحمل يشوى لنا بالتنور [3] . تصور عمر رضي الله عنه وهو يقف على رأس إمبراطورية تمتد على أقاصي الأرض يرى أن أكل (خروف مشوي) عمل ليس له ما يسوغه، بل هو من السرف والبطر ويحق له أن يحذر من الوقوع فيه، وهو من الطعام الحلال، ومن الطيبات لكنه قبل ذلك وبعده ولي أمر هذه الأمة، جعل نفسه بمرتبة أدناهم عيشا، حتى يصدق حسه في أحوالهم، وذلك وحده ما يرفعه إلى مستوى حمل الأمانة، وحمل أدائها. ثم قارن ذلك بالحال الذي عليها كثير من الحكام ولا يملكون معشار ما ملك عمر رضي الله عنه !! [ ص: 41 ] والأمر على يسره إلا أنه يعـكس منهجا في الحكم، وفلسفة في إدارة أمر الأمة، فهو ليس ذلك البدوي الذي لا يدرك ملاذ الحياة، ولكنه خوف الله وعبء الأمانة.

            ولم يكتف عمر رضي الله عنه بأن جعل طعامه خشنا، بل كان يكتفي بلون واحد منه، ولم يرض أن يوضع على مائدته أكثر من لون [4] . أما مقدار طعامه، فقال عنه ابن عباس، رضي الله عنهما: "كانت له كل يوم إحدى عشرة لقمة إلى مثلها من الغد" [5] ، إذ لم يكن همه ولا هم معظم الصحابة الامتلاء من الطعام، بل هو إقامة الأود في الغالب. ذلك ما جعله يتحسس حقيقة حال إخوانه من المسلمين في شدتهم، ففي عام الرمادة، إذ حل القحط بالحجاز، كان عمر رضي الله عنه يتولى إطعام الناس بنفسه، فكان يقف متكئا على عصا كما يصنع الراعي، ثم يدور على القصاع التي فيها طعام الناس، ينادي: يا يرفأ - غلامه - زد هنا لحما، وزد هنا خبزا، وزد هنا مرقة، فلما انتهى ودخل بيته دعى بطعامه، فإذا هو خبز بزيت إلى جنبه ملح لم يدق [6] ، وإنما يأتي ذلك منه رهافة في الحس، وإدراكا لمسؤولياته الأخلاقية، فإنه إذا كان قد اختار لنفسه الزهد في العيش، فإنه ليس له أن يملي ذلك على الأمة ويرغمها على الزهد مثله، لذلك اجتهد عمر رضي الله عنه أن يختار لأمته أفضل ما يمكن، مكتفيا هو بالأمر اليسير، متمثلا [ ص: 42 ] لوظيفة الراعي الذي يختار لرعيته أفضل المراتع وأخصبها، أداء لواجب الأمانة فيما هو أصلح لها.

            وعلى المنوال نفسه كان ملبسه، فاكتفى في أغلب أحواله بقميص واحد، فقد تأخر يوما على الناس في الجمعة، فلما خرج إليهم وصعد المنبر اعتذر إلى الناس؛ لأن قميصه كان بحاجة إلى ما يصـلحه، وليس له غيره [7] . ولم يجد عمر رضي الله عنه بأسا في أن يكون أمره أبعد من ذلك، فقد شوهد وهو يرمي الجمار في الحج، وإزاره مرقع على مقعدته [8] . ومما يجدر بيانه أن أخبار ثياب عمر رضي الله عنه هذه جاءت مقترنة مع وصفه أميرا للمؤمنين وليس قبل ذلك، فذلك لم يكن عن فقر منه وضيق في الحال، بل مع سعة وتمكن، فهو خليفة المسلمين، وبيت مالهم تحت تصرفه؛ إلا أنه آثر ألا يرتع في ذلك.

            وكشف ذلك عن فلسفة عميقة، فعمر رضي الله عنه أراد أن يظهر بين المسلمين كواحد من أبسطهم وأهونهم حالا، حتى يسهل على هؤلاء إدراك حقيقة شخصيته فيجدون متسعا للاتصال به من دون تهيب، وهو لو ارتدى الثياب الفاخرة، لكان ذلك مخالفا لمنهجه في الزهد أولا، ولزادت هيبته المعهودة بينهم، ولوجد الفقراء والمساكين في ذلك رسالة مفادها أنه لا ينتمي إليهم، لذلك كانت ثيابه رسالة إلى هؤلاء البسطاء أنه منهم، وليس ثم ما يحول دون اتصالهم به من غير خوف أو تردد، لذلك بوسعنا القول: إن الأغنياء والأثرياء كانوا [ ص: 43 ] أشد رهبة ومهابة لعمر رضي الله عنه من الفقراء والمساكين، وذلك ما حال دون بسط جبروتهم عليهم، وهو ما عبر عنه عمر رضي الله عنه في أول خطبة خطبها بعد توليه الخلافة: "... فاعلموا أن شدتي التي كنتم ترون قد ازدادت أضعافا، إذ صار الأمر إلي على الظالم والمعتدي، والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويهم، وإني بعد شدتي تلك واضع خدي بالأرض لأهل العفاف والكف منكم والتسليم" [9] ، فقد نشد عمر رضي الله عنه بزهده نصرة الفقراء والضعفاء، وإضعافا لمن كان فيه شيء من ظلم أو إحساسا بالقوة ممن كان في يده مال.

            ومن ناحية أخرى، فقد كانت لعمر رضي الله عنه أسفاره الكثيرة، حاجا أو معتمرا أو متفقدا لأحوال البلاد، فهل اتخذ عمر رضي الله عنه في أسفاره تلك مظاهر الرفاهية التي تبلغه مقصده بـ (راحة تامة)؟ لقد كان زهد عمر رضي الله عنه في مركبه لا يقل عن زهده في طعامه وثيابه. فقد قصد الشام في سفر من أسفاره، فركب جملا أورق، تصطفق رجلاه بين شعبتي دابته هذه، وقد جعل تحته كساء من صوف، يضعه تحته إذا ركب، وهو فراشه إذا نزل، حقيبته شملة محشوة ليفا، هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا نزل [10] . وكان بوسعه أن يتخذ لنفسه موكبا فخما من رواحل عديدة تحمل متاعا فخما، ورياشا مريحة، وعدة لطعامه وشرابه، وكان بوسعه أن يسوغ ذلك بأنه زيادة في المهابة التي هي من لوازم السلطة وبسط النفوذ في الداخل والخارج. لكن عمر رضي الله عنه وجد أن المهابة المتولدة عن زهده [ ص: 44 ] أعظم في النفوس. وهكذا كان حال عمر رضي الله عنه في مسكنه أيضا، إذ لا قصور ولا رياش ولا أثاث يجلب له من أصقاع الأرض وطرائفها، مكتفيا بأبسط حال، ولم يكن منبع ذلك البداوة وبساطتها، بل جاء الأمر مقترنا على الدوام بخوف الله وأداء الأمانة على أفضل وجوهها.

            وهكذا يمكن إيجاز أبرز جوانب فلسفة عمر رضي الله عنه في زهده:

            1- إذا كان ولي الأمر قد زهد في عيشه لم تتطلع نفسه إلى ما في أيدي الناس، بل إنه يصون أعراضهم وأموالهم وحرماتهم.

            2- والزاهد في عيشه كالصائم، يستشعر ضعف بدنه، فتضعف رغبته في الشهوات عموما، فيقبل على ما فيه خيره وخير أمته عند الله تعالى.

            3- والزاهد يستشعر أحوال الفقراء والضعفاء في أمته، فيكون ذلك دافعا في معالجة أحوالهم والرقي بعيشهم.

            4- والزاهـد لا يصـانع الأغنياء والأثرياء وأصحـاب الجاه والنفوذ، فلا يكون نصيرا لهم، وهذا يحد من طغيانهم وتجبرهم ووقوعهم في ظلم الرعية.

            5- والزهد أساس لا غنى عنه للعفة والأمانة والطهارة، فمن لم يكن زاهدا من أصحاب النفوذ ربما لا يردع نفسه عن أن تمتد شهوته إلى مصالح الأمة وحقوقها، عندها لا يعجز عن إيجاد مسوغات كثيرة لذلك.

            6- والزهد أساس حقيقي للعدل، فمن لا يزهد قد يقع في مداراة أصحاب النفوذ والجاه والمال، فإذا وقع في ذلك وقع في الظلم حتما. [ ص: 45 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية