الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            ثالثا: منهجية عمر رضي الله عنه في التعامل مع الولاة والعمال:

            وجدنا في فقرات سابقة كيف أن عمر رضي الله عنه كان يتحرى مواصفات ومقاييس معينة في بحثه عن العاملين في مؤسسات الدولة، فإذا ما توفر على عدد من هؤلاء ووضعهم في المكان المناسب بوصفهم الرجال المناسبين، فإن ذلك لم يكن عنده نهاية المطاف، إذ لا بد من إجراءات تضمن سلامة عملهم. وسار ذلك في اتجاهين؛ الاتجاه الأول ما عمله مع عماله عند تعيينهم، والاتجاه الثاني ما يتعلق بالإشراف على هؤلاء وهم في عملهم. أما ما يتعلق بالاتجاه الأول فقد كانت لعمر رضي الله عنه الإجراءات الآتية:

            - وضـع الشروط على العمال: إذ تواترت الروايات التي أفادت أن عمر رضي الله عنه كان إذا عين عاملا وضع عليه الشروط (وأشهد عليه رهطا من المهاجرين والأنصار) وكانت هذه الشروط تتضمن: ألا يركب مركبا فاخرا، ولا يتوسع في طعامه، ولا يلين في ملبسه، ولا يتخذ بابا دون حاجات [ ص: 111 ] الناس [1] . وعلى البساطة الظاهرة في الأمر، إلا أنه على درجة عالية من الأهمية من حيث إن هذه الشروط رسخت لعلاقة فاعلة بين هؤلاء الولاة ورعيتهم في الأقاليم، فعمر رضي الله عنه أخذ عماله بما أخذ به نفسه في حياته وعيشه وتعامله مع رعيته، حتى يتحسس هؤلاء عظم الأمانة التي يتحملونها تجاه هذه الرعية.

            ومما كان موضـع ملاحظـة عمر رضي الله عنه أيضا في شروطه على ولاته، أن لا يزاولوا أعمالا خاصة في أثناء توليهم أعمالهم، فهم طوال مدة عملهم أجراء، والأجير لا يحل له مزاولة عمل في مدة أجرته [2] ؛ كما كانت لعمر رضي الله عنه أغراض أخرى من وراء هذا الشرط، منها أن يتفرغ الوالي كليا لولايته، لا يشغله عنها شاغل، فإنه إن شغل في أمر آخر - ولا سيما إذا كانت فيه مكاسب مادية - لا بد من أن يكون ذلك على حساب جوانب من انشغاله بولايته. كما إن مزاولة عمل آخر - ولا سيمـا إذا كان في ولايته نفسها - فإن ذلك سيقود لا محالة إلى تحقيق مكاسب خاصة باسم الولاية العامة، وهو ما يدعى اليوم بـ (التربح) من المنصب، فهو سيستغل منصبه ومكانته وعلاقته بما لا يجوز من الناحية الشرعية، فذلك استغلال للعام من أجل الخاص، وذلك أمر مرفوض أخلاقيا أيضا. كما أن ذلك يتضمن أيضـا هضما لحقـوق الرعية إما خوفا أو حياء أو ظلما، من أجل ذلك كله لم يجز عمر رضي الله عنه لعماله ممارسة عمل آخر إلى جانب وجودهم في منصب الولاية. [ ص: 112 ]

            - توثيق الأموال والممتلكات: كما عمد عمر رضي الله عنه إلى توثيق ما للولاة والعمال من أموال عند تعيينهم [3] . ولنا أن نتصور أن ذلك شمل أموالهم المنقولة وغير المنقولة، وهو ما يشبه عملية كشف الحساب، وفي ذلك تنبيه لهؤلاء على أن أية زيادة (غير مشروعة) في أموالهم سوف تجعلهم تحت طائلة الحساب على وفق قاعدة: "من أين لك هذا"، التي يبدو أن عمر رضي الله عنه أول من وضعها.

            وصيته لعماله وولاته: فإذا ما تمت كل هذه الإجراءات، كان عمر رضي الله عنه يماشي هؤلاء الولاة والعمال مسافة من الطريق مودعا وموصيا، يوصي برعيته، ومعرفا بطبيعة العمل، ومذكرا بأمانة الله تعـالى الثقيلة، ومن وصاياه هذه: "إني لم أستعملكم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أشعارهم، ولا على أبشارهم، إنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل، وإني لم أسلطكم على أبشارهم ولا على أشعارهم، ولا تجلدوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن محمد صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم" [4] .

            فهذه دعوة لاحترام آدمية الإنسان وكرامته وحرمته في نفسه وفي حقوقه وفي عرضه وفي ماله. وتخصيصه العرب هنا لا ينطلق من عصبية بل لأن العرب كانوا مادة الإسلام الرئيسة في الذود عنه وحمل رسالته. أما تجمير المقاتلين، فهو تأكيد منه على ضرورة المراوحة بين المقاتلين مراعاة لحياتهم الاجتماعية بعدم إبقائهم في خطوط القتال لأوقات طويلة. [ ص: 113 ]

            - تبصيره الأمة بحقوقها: ثم كان يعمد بعد ذلك إلى تبصير الأمة بما لها وبما عليها. فوعي الأمة ضمانة مهمة لقوتها، وجهلها سببا رئيسا في ضعفها، فمن يريد لأمته أن تكون قوية لابد من أن يحرص على توعيتها، وهذا ما كان يسعى عليه عمر رضي الله عنه ، فمن خطابه للأمة قوله: "إني لم استعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، ويشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم، ولكن استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله مظلمة، فلا إذن له علي ليرفعها إلي حتى أقصه منه؟ فقال: عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين! أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته، أتقصه منه؟ فقال: وما لي لا أقصه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه" [5] .

            فهنا نجد أن عمر رضي الله عنه قد وضـع أمته أمام حقوقها حتى لا تخضع للابتزاز أو الاستغفال من أحد العمال أو الولاة، كما أنه كشف عن سطوته بهؤلاء إن هـم نالوا شيئا من حقـوق الأمة. لقد كانت هذه من عمر رضي الله عنه التفاتات مبكرة كشفت عن عمـق بصيرته بما يعرف اليوم بحقوق الإنسان، فقد جاء بها الإسلام كمبادئ، ثم جاءت عبقرية عمر رضي الله عنه لتحيلها إلى سياقات عملية في بنية الدولة والأمة.

            أما الجـانب الآخر فتمثـل بإجراءات عمر رضي الله عنه تجاه الولاة بعد تعيينهم، إذ عمد إلى الإجراءات الآتية: [ ص: 114 ]

            - تطوير آليات عمل الولاة: إذ كان عمر رضي الله عنه يرسم لهؤلاء آليات عمل تجعلهم أكثر قدرة على تحقيق مصالح الأمة، فكان يحثهم على الحلم، من ذلك مثلا: إن "لكم معشر الولاة حقا في الرعية، ولهم مثل ذلك، فإنه ليس من حلم أحب إلى الله ولا أعم نفعا من حلم إمام ورفقه، وإنه ليس جهل أبغض إلى الله ولا أعم ضرا من جهل إمام وخرقه، وإنه من يطلب العافية فيمن هو بين ظهرانيه ينزل الله عليه العافية من فوقه" [6] . ومثال آخر يتعلق بضرورة مراعاة وجوه القوم: "إنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس، فأكرموا وجوه الناس، فإنه بحسب المسلم الضعيف أن ينصف في الحكم والقسمة" [7] . فوجوه القوم - عند من لم يجد وسيلة مباشرة - هم أداة مهمة لإنقاذ حقوقهم في الكثير من الجوانب، لذلك فإن إكرام هؤلاء الوجوه، هو في أحد جوانبه، من أجل هؤلاء الضعفاء.

            - المتابعة المباشرة لبعض الولاة: فقد كان لعمر رضي الله عنه متابعاته المباشرة والخاصة لبعض الولاة، من ذلك كتابه إلى عمـرو بن العاص رضي الله عنه مستفهما عما تجمع عنده من مال خاص، كيف كثر ومن أين جاء؟ ومما جاء في الكتاب: "أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مـال لك، فاكتب إلي: من أين أصل هذا المال، ولا تكتمه" [8] ؛ ويكشف هذا أن لعمر رضي الله عنه عيونا بثها في الولايات [ ص: 115 ] والأقاليم تكتب إليه بأخبار الناس والولاة والجند وما إلى ذلك، حتى يبدو وكأنه يشاهد بعينيه، وهذا جانب مهم في المتابعة والملاحظة للعمال والولاة حتى لا يشتط بهم الأمر ويظنوا أنهم في مأمن فتزل أقدامهم.

            - دوام النصيحة والوصية: فكان عمر رضي الله عنه يديم على عماله وولاته النصيحة والوصية مذكرا ومنبها، فقد كتب إليهم مثلا: "إن للناس نفرة من سلطانهم، فأعوذ بالله أن تدركني وإياكم ضغائن محمولة، ودنيا مؤثرة، وأهواء متبعة، وأنه ستدعى القبائل، وذلك نخوة من الشيطان، فإن كان كذلك فالسيـف السيف..." [9] ؛ وكتب إلى عمـرو بن العاص رضي الله عنه : "كن لرعيتك ما تحب أن يكون لك أميرك" [10] ؛ وكتب إلى أبي موسى رضي الله عنه : "اعتبر منـزلتك من الله بمنـزلتك من الناس، وأعلم أن مالك عند الله مثل ما للناس عندك" [11] ؛ ومثل هذه الرسائل كان كثيرا، وهي أشبه ببرنامج عمل يرسمه لولاته، محوره الرئيس حقوق الأمة وكيفية أدائها والحفاظ عليها.

            - رسائل فقهية: كان عمر رضي الله عنه يتابع عماله ويكاتبهم في شؤون الفقه كافة، مبينا لهم ما يجب من أحكام في أمور كثيرة؛ لأن هؤلاء سيؤدون بدورهم إلى رعيتهم مثل هذه التوجيهات، تأشيرا للجانب الدعوي في وظيفة الدولة الإسلامية. فمما كتبه إلى عماله ما يتعلق بصلاة الصبح وما يقرأ فيها [ ص: 116 ] على موجب سنة النبي صلى الله عليه وسلم [12] ؛ وكذلك ما يقرأ في سواها من صلوات. وكتب إليهم في مسائل النكاح بالذميات [13] ؛ ومسائل البيوع والأرزاق والمكاييل [14] ؛ وزكاة الفضة [15] . وهذه نماذج لما كان يتابعه مع عمله ليحفظ من خلالهم وظيفة الدولة الدعوية، وليؤدي هؤلاء دورهم في هذا السياق أيضا.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية