الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            ثانيا: العدل أساس بناء الأمة:

            إذا كان الحاكم قد أنصف الأمة من نفسه، فهو لها أنصف من غيره، فذلك هو عين العقل والمنطق، فإن من ينتزع حق الأمة من نفسه، فإنه أكثر قوة ورغبة في انتزاع حقها من الآخرين، هكذا اجتهد عمر رضي الله عنه في ترسيخ هذا المبدأ الأخلاقي الخطير! أن لا يجعل للظلم طريقا إلى نفسه، ولا للتعدي سبيلا إليها. ومرة أخرى فحتى يأمن على نفسه من مغبة الوقوع في التعدي اتخذ من الزهد منهجا لحياته، فيقطع عن نفسه دابر الشهوة والتطلع إلى ما في أيدي [ ص: 83 ] الناس، فيمنع نفسه من ظلمهم، ومن ثم يقطع دابر ظلم الظالمين لهم، وذلك هو انتشار لواء العدل. وهنا يقول ابن عباس، رضي الله عنهما: "أكثروا من ذكر عمر، فإن عمر إذا ذكر ذكر العدل، وإذا ذكر العدل ذكر الله" [1] .

            مر عمر رضي الله عنه برجل يكلم امرأة في الطريق، فعلاه بالدرة، فقال الرجل: إنها امرأتي يا أمير المؤمنين! فقال له عمر رضي الله عنه : فاقتص مني إذن. لم يماطل عمر رضي الله عنه ولم يجادل، ولم يقل له أين البينة؟ ومن يؤكد ذلك؟ بل سارع إلى قبول ظاهر قوله، فهو بذلك يزرع الثقة اللازمة بين الحاكم والمحكوم، فقال الرجل: قد غفرت لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه : ليس مغفرتها بيدك، ولكن إن شئت أن تعفو فاعف، قال: قد عفوت يا أمير المؤمنين [2] .

            فكيف كان عمر رضي الله عنه يصنع إذا وجد نفسه طرفا في خصومة أو نزاع على أمر ما، قال أحدهم: "لو كان عمر ميزانا لما كان فيه ميط شعيرة" [3] ، يريد أن عمر رضي الله عنه في سلوكه وحكمه وعمله أدق وأعدل من الميزان.. اختلف عمر رضي الله عنه مع أبي بن كعب رضي الله عنه في بستان فجعلا بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه ، فأتياه في منـزله، فتنحى زيد عن صدر فراشه، وقال: ها هنا يا أمير المؤمنـين، فقال عمر رضي الله عنه : جرت يا زيد في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي، فجلسا بين يديه فحكم بينهما [4] ، فلم يرض للقاضي أن يميزه من خصمه بسبب منصبه، [ ص: 84 ] فالخليفة يقف على قدم المساواة مع أي مواطن أمام الشريعة والقانون، بل ينبغي للحاكم أن يكون أكثر إدراكا من غيره لخطورة هذا الأمر فيتمثله في سلوكه وإدارته، لا أن يحول القضاء والقانون إلى مطية له، فذلك خيانة لا حد لها.

            وإذا كان عمر رضي الله عنه قد أخذ الحق من نفسه لأمته، فإنه لابد من أن يأخذه من أهله لأمته أيضا. فلا يقدمهم على سائر الأمة في شيء من غير مسوغ شرعي. فقد صعد المنبر وأمر الناس ونهاهم فيما فيه مصلحة الأمة، ثم أتى أهله بعد ذلك وقال: "قد سمعتم ما نهيت عنه، وإني لا أعرف أحدا منكم يأتي شيئا مما نهيت عنه إلا ضاعفت له العذاب ضعفين" [5] . فكما أن عمر رضي الله عنه ليس فوق الشرع، فإن أهله أيضا ليست لهم مزية تعفيهم من الشرع وأحكامه. بل إنه هددهم بمضاعفة العقوبة عليهم إن كانت منهم مخالفة شرعية؛ لأنهم أسوة يتطلع الناس إليهم، وهم المنظور إليهم من بين الناس، وبالتالي لا بد من أن يكون ميدانا صادقا للعدل.

            ولما أقام عمر رضي الله عنه العدل على أهله، فإنه أقامه أيضا على وجوه القوم وكبرائهم، فقد حضر باب عمر رضي الله عنه بعض وجوه القوم من قريش، ممن كانوا في الجاهلية أصحاب البأس والقوة والوجاهة، منهم: أبو سفيان وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، وتصادف أن كان على الباب أيضا ممن كان مستضعفا في الجاهلية مثل صهيب الرومي وبلال الحبشي وغيرهما ممن شهد بدرا، فخـرج الأذن من عمر رضي الله عنه بدخـول هـؤلاء وتأخير أولئك، فقال [ ص: 85 ] أبو سفيان: لم أر كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه ولا يلتفت إلينا!! فقال سهيل بن عمرو: "أيها القوم! إني والله لقد أرى الذي في وجوهكم، إن كنتم غضابا، فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتـم، فكيف بكم إذا دعـوا ليوم القيامـة وتركتم! أمـا والله لما سبقوكم إليه من الفضل بما لا ترون أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تنافستم عليه" [6] . فعمر رضي الله عنه له مكيال واحد هو مكيال الإسلام والسابقة فيه والعمل له، فهؤلاء الضعفاء كانوا أسبق إلى الإسلام من علية القوم أولئك، وهم الذين قاتلوا عنه وجاهدوا فيه، وأولئك جاءوا لاحقا، وبالتالي لا بد من أن تكون منزلة هؤلاء الضعفاء أرفع عند عمر رضي الله عنه من أولئك، إنه الحق والعدل الذي كان ديدن عمر رضي الله عنه ومنهجه.

            ولم يفت عمر رضي الله عنه أن ينشر لواء العدل في الأقاليم أيضا، فكان يردد قوله: "أيما عامل لي ظلم أحدا فبلغني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته" [7] ، وهكذا فإنه مسؤول مباشرة عن إقامة العدل هناك، وإلا فإنه شريك في كل ظلم بعيدا عنه. إن عمر رضي الله عنه هو الذي يعلم أمته كيف تفكر وكيف تحاسب، فقد حدث قوما من المسلمين فقال: "أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعـدل، أقضيت ما علي؟ قالوا: نعم. قال: لا، حـتى أنظر في عمله، أعمل [ ص: 86 ] بما أمرته أم لا" [8] . فليس الأمر تولية الأكفاء وحسب، بل لابد من متابعتهم ومراقبتهم ومحاسبتهم، فقد يزل بعضهم تحت ضغط شهوات السلطة وسطوتها، فيقع في ظلم الرعية والخليفة عنه غافل ظنا منه أنه الكفء المستقيم. وهكذا كان عمر رضي الله عنه يتابع أحوال الأمة في كل جوانبها.

            اشتكى مصري عند عمر رضي الله عنه بأن ابن عامل مصر ضربه أمام الناس لفوزه عليه في سباق الخيل، ضربه وهو يقول له: خذها وأنا ابن الكريمين! فلما ذهب إلى الوالي عمرو بن العاص رضي الله عنه ليشتكي ابنه حبسه هذا أربعة أشهر بدلا من الانتصاف له. فدعا عمر رضي الله عنه بعمرو بن العاص وابنه محمد، وتحقق منهما من الأمر، فلما تبين له صحة ادعاء المصري، جرد محمد بن عمرو بن العاص من ثيابه - إلا ما ستر عورته-وأعطى المصري سوطا، وأمره أن يقتص لنفسه، ثم أراد عمر رضي الله عنه أن يقتص المصري من الوالي عمرو بن العاص رضي الله عنه أيضا، لكن هذا لم يفعل؛ لأنه لم يكن قد ضربه بل حبسه فقط. ثم وجه عمر رضي الله عنه كلامه إلى قريش عامة: "والله يا معشر قريش إن تريدون إلا أن تردوا الناس خـولا، ما مثلهم ومثلكم إلا كقوم اصطحبوا في سفر، فقالوا لرجل: تقدم فإمنا في الصلاة، وأقسم علينا فيأنا، أفأساءوا بذلك أم أحسنوا" [9] ، فهو يعتب على قريش أن الناس قدموهم وجعلوهم ولاة أمرهم، فلا يحسن بهم أن يستعبدوهم، ثم قال لعمرو بن العاص: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟! ثم [ ص: 87 ] قال للمصري: انصرف راشدا، فإن رابك ريب فاكتب إلي" [10] ، خوفا عليه ممن قد يفكر بالانتقام منه.

            ومن وجوه عنايته بمصالح الأمة إنصافها في أموال الجباية فلا يرهقها، فقد أرسل العمال لمسح أرض السواد وتقدير الخراج عليها، فلما أنجزوا مهمتهم وقدموا له تقريرا بشأن ذلك سألهم إن كانوا أثقلوا على الناس، فردوا أنهم أنصفوا الناس وتركوا لهم فضلا، بل إن بالإمكان زيادة الضريبة من غير أن يلحقهم ضرر، لكنه رفض أية زيادة مكتفيا بما تم تقديره حتى يبقى للناس سعة تحفزهم على مزيد العمل [11] .

            وجاءه أبو هريرة رضي الله عنه بأموال الجباية من البحـرين - وكان يتولاها - فإذا المال خمسمائة ألف درهم، ولم يكن المسلمين قد اجتمع عندهم مثل هذا المبلغ من قبل، فكان ذلك مثار دهشـة عمر رضي الله عنه وقلقه في الوقت نفسه، إذ سأل أبا هريرة: أطيب هذا المال؟ هل المال حـلال؟ هل جمع من الحلال؟ بلا ظلم ولا عدوان ولا عسف، قال أبو هريرة: نعم، لا أعلم إلا ذلك [12] . فهو لم يهمه مقدار المبلغ المجموع، ولم يفكر كيف سيوزعه، وكيف (ستنتفع) الأمة منه، بل فكر أولا أن يكون المال حلالا بلا ظلم ولا عسف ولا عدوان؛ إذ كيف يسع الأمة أن تنتفع من مال فيه مظلمة لأحد!! [ ص: 88 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية