الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

            الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

            أولا: هم الأمة الشغل الشاغل لعمر رضي الله عنه :

            كانت هموم الأمة ومشاغلها شغل عمر الشاغل في كل سكناته وحركاته، حتى صلاته كانت تتخللها شوارد تقوده إلى هموم أمته، إدراكا منه لعظم الأمانة التي حملها، قال عن صلاته: "إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة"، فعلق ابن القيم على ذلك: إن عمر كانت تتزاحم عليه الخواطر في مراضي الله تعالى، فإذا به يجمع بين الصلاة والجهاد، وهذا من باب تداخل العبادات في عبادة واحدة [1] . فضلا عن أن ذلك يعبر عن صدق تحسسه لحاجات الأمة وسلامة طويته تجاهها، فهو صادق في حمل الأمانة، صادق في أدائها.

            وثم مظهر آخر عبر عـن عمق تحسـسه لمشاغل الأمـة، إذ قـال رضي الله عنه : "لو مات جمل ضياعا على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه" [2] . فمن يتصدى لولاية الأمر فإن أمامه أحد سبيلين: إما أن يعتقد أنه نال بذلك مغنما ومكسبا، فيرتع فيه من دون تورع، وإما أن يعتقد أنه تقـلد بذلك أمانة عظيمة، (الله) بعظمة جلاله هو الذي سيسأله عنها. وهما سبيلان يستحيل الجمع بينهما بحال. فلم يجد عمر رضي الله عنه إلا أن يسلك السبيل الثانية، لعظيم خوفه من الله تعالى. [ ص: 30 ]

            وثقة عمر رضي الله عنه بنفسه لم توقعه في الغرور، والاعتداد بنفسه، بل لا بد من رقابة الأمة عليه، وكان هو الذي يسعى إلى تنمية هذا الحس عند الأمة، ومن مظاهر ذلك أنه كان يسأل من حوله: أملك أنا أم خليفة؟ [3] وسـأل محمـد ابن سلمة أيضا: كيف تراني يا محمد؟ [4] ، ليس سؤال من يستدرج المديح والثناء، بل سؤال من يبحث عن النصيحة والمشورة والنقد، أليس هو القائل: "رحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي" [5] .

            ومن عمق استشعار عمر رضي الله عنه لهموم أمته أنه لم يرض لنفسه أن (يشبع) لأن المرء إذا شبع، استولى عليه شعور المشبعين، وإذا جاع استشعر حال الجياع. لذلك فإن عمر رضي الله عنه آثر أن لا يشبع حتى لا يفوته حال الفقراء والمساكين، لذلك قال: "بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع" [6] . ودخل عليه أحدهم ووجد عنده خبزا وزيتا، فلما تناول منه لم يسغه، فأشار عليه أن يتخذ لنفسه خبزا ألين من هذا، فرد عليه عمر رضي الله عنه : "ويلك! أيسع ذلك المسلمين؟" قال: لا، فقال عمر: "أفأردت أن آكل طيباتي في حياتي الدنيا" [7] . وربما زعم بعضهم أن ذلك من عمر مثالية مفرطة. فلا بد لولي الأمر من أن يكون في منتهى الرفاهية حتى يتمكن من (التفكير والتخطيط) لما فيه خير الأمة. [ ص: 31 ] غير أن المؤكد أن الانغماس في الرفاهية سينسي ولي الأمر هذا هموم الجياع والفقـراء والمعـدمين، وهم اليوم ما أكثرهم! فولاية أمر الأمة، كما تقدم، إما أمانة عظيمة، وإما مغنما ومرتعا، ويستحيل الجمع بينهما.

            مظهر آخر من مظاهر استشعار عمر رضي الله عنه لهموم الأمة، هو تحسسه لأوضاع المقاتلين المجاهدين في جبهات القتال. فلما احتدمت المعارك في جبهات العراق، كان عمر رضي الله عنه يخرج كل يوم ماشيا وحده على طريق العراق، يقطع مسافة بضعة كيلومترات فلعله يصادف من يأتيه بخبر من هناك [8] . فقد كان قلقه شديدا على إخوانه من المسلمين في سوح الجهاد، ولا سيما بعدما وقعت بعض الإخفاقات هناك. وفي هذا السياق أيضا رفض ركوب المسلمين البحر للقتال، خوفا على مصيرهم [9] . فالأمر كان لا يزال مبكرا على مثل هذا المنحى. وكانت أولوياته حفظ حياة المقاتلين، فكل فرد منهم كان على درجة كبيرة من الأهمية، ليس فقط لقلة عدد المسلمين في مواجهة أخطار فادحة في الشمال والشرق والغرب آنذاك، ولكن لأن حفظ حياة كل فرد أمانة في عنق ولي الأمر ينبغي أن يبذل قصارى وسعه للحفاظ عليها.

            ولم يقتصر هم عمر رضي الله عنه على الأمة بوصفها جماعة، بل امتد ذلك إلى الأفراد بوصفهم أفرادا أيضا، من ذلك على سبيل المثال، أنه كان يتفقد أحوال المدينة ليلا فعساه أن يغيث صاحب حاجة، فإذا بأعرابي امرأته تضع مولودا [ ص: 32 ] وليس ثم من يعين في هذه الشدة! فلمـا علم عمر رضي الله عنه بالأمر سارع إلى اتخاذ ما يلزم، جاء بزوجته لتعين المرأة في حالها، وليعد هو عمر رضي الله عنه نفسه الطعام الممكن لهذه الأسرة. ليس هذا مشهدا مثـاليا يعود إلى أزمنة قديمة ليس هناك ما يوجب تكرارها! لكن الأمر يكمن في مغزاه ودلالته، إنه الاستشعار الحقيقي والتحري الصادق عن حاجات الأمة بكل أفرادها، ربما كان لهذا الأمر تجليات أخرى، لكن الأمر في جوهره واحد.

            مظهر آخر استشعره عمر رضي الله عنه تجاه أمته، ما يؤكد عمق صدقه تجاه أمته وأمانتها التي تقلـدها، هو استـشعار مستقبل أمته، فاستشعار الحاضر وحده لا يكفي، إذ إن للمستقبل جذورا في الحاضر، أي أن الحاضر سوف يتمخض عنه المستقبل، وعليه فإن القائم على الحاضر هو المسؤول عن المستقبل أيضا، بشكل أو بآخر، ذلك ما كان يتحراه عمر رضي الله عنه أيضا. فكان يتحرى عن الفتنة وأبوابها واحتمالاتها لكي يوصدها ما أمكنه ذلك [10] ، وخاف على أمته من فتنة الرفاهية وكثرة المال حتى بكى من ذلك [11] . كما أنه أعمل جهده من أجل تحقيق العدالة والتوازن الممكن في التصرف في موارد الأمة، الموازنة بين الحاضر والمستقبل، لذلك كان قراره - بعد المشاورة - أن لا توزع غنيمة الأرض على المقاتلين، بل جعلها وقفا على بيت مال المسلمين، حتى لا تكون حكرا لفئة من المسلمين تحرم منها أجيال الأمة اللاحقة، لذلك قال للذين طالبوه بتوزيع هذه [ ص: 33 ] الأراضي: قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، ولو قسمت الأرض لم يتبقى لمن يأتي بعدكم شيء [12] .

            وكان من مخاوفه أيضا تجاه مستقبل الأمة انتشار الأهواء بين الناس وما قد يترتب على ذلك من أمور، فقال: "إن أخوف ما أتخوف عليكم شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء برأيه، وهي أشدهن" [13] ؛ لأن ذلك مدعاة لظهور الفتن والزيغ في الدين، ثم تفرق الناس وتصارعهم، واستشراء الفتن، حتى ليكون قتل المسلم أهون الأمور، فقال: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي أن يؤخذ منكم الرجل البريء فيؤشر كما يؤشر الجزور، ويشاط لحمه كما يشاط لحمها، ويقال: عاص، وليس بعاص" [14] .

            كما تخوف عمر رضي الله عنه من العصبية القبلية واحتمالات تجددها بعد ما عمل الإسلام على قمعها لنتانتها، لذلك كتب إلى أمراء الجند: "إذا تداعت القبائل فاضربوهم بالسيف حتى يصيروا إلى دعوة الإسلام" [15] . وكتبوا إليه أن رجلا نادى: يا آل ضبة! نخوة للعصبية، فكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله هناك: إن كان الرجل قال ذلك فعـاقبه أو أدبه، فإن ضبة لم تدفـع عنهم سوءا ولم تجر إليهم خيرا قط [16] . [ ص: 34 ]

            لقد قاد عمر رضي الله عنه أمته عشر سنوات، كان هم الأمة شغله الشاغل، حمل في صدره ورأسه كل صغيرة وكبيرة، كل قريب وبعيد، هم المسلمين وغيرهم، هم البشر والحجر والشجر، ليقينه أنه مسؤول عن ذلك، ولا بد من أن يعد لكل سؤال جوابه، والأمر عند إدراكه ليس باليسير ولا بالهين، فلا يحق لمن يتقـلد أمر الأمـة أن يقـول عن أمر مـا -مهما كان ضئيلا-: لا أدري، ولم أعرف، فإن كان كذلك فليدع الأمر لمن يقوم به خير قيام، لمن يدري ويعرف ويدرك عظم الأمانة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية