الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خامسا: دولة دعوية:

            إن الميزة الرئيسة للدولة الإسلامية أنها دولة دعوية، قامت على دين الإسلام، وتبنت العمل به، والعمل على نشره، فهي دولة صاحبة رسالة تحملها إلى البشر جميعا، والتقصير في هذا الجانب يعني أن وظيفة هذه الدولة قد أصابها الخلل، وهي كلما تمسكت بالجانب الدعوي، فإن ذلك مؤشر أنها ما زالت على منهج الصواب. وهذا أمر أدركه عمر رضي الله عنه جيدا، ومارسه في مظاهر كثيرة، منها ما هو شخصي مباشر، ومنها ما تبنته مؤسسات الدولة. فكان يجعل من منبر المسلمين وسيلة ليعلمهم جوانب دينهم والعمل به، فكان يعلمهم [ ص: 69 ] التشهد في الصلاة [1] ، ويوجههم إلى صلة أرحامهم [2] ، وينبههم أيضا إلى أخطار الخمر ومما تعمل وكيف، حتى لا يقعوا في شيء منها [3] .

            ولم تقتصر ملاحظات عمر رضي الله عنه على العبادات والمعاملات والعقائد، بل تطرق إلى الجوانب السلوكية والأخلاقية في حياة الناس اليومية - فهو إمام هدى مرب ومرشد وموجه - فكان يوجههم فيما يصلح من شأنهم، فقال مرة: "أيها الناس! إن بعض الطمع فقر، وبعض اليأس عنـى، وإنكم تجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وإنكم مؤجلون في دار الغرور..." [4] ، إلى آخر ما في ذلك من نصائح وتوجيهات.

            ولم يكن المنبر وسيلة عمر رضي الله عنه الوحيدة، بل تداخل مع الناس في حياتهم، يعلمهم ويرشدهم، فإذا وجدهم تعبوا من الحديث وملوا "أخذ بهم في غرس الشجر" [5] ، فهو يدرك أن النفوس لتمل، فإذا ملت لم تعد تتقبل، فيغير الحديث والعمل والمعاملة حتى تتحقق الفائدة. ورأى عمر رضي الله عنه رجلا يطأطئ رقبته في الصلاة مظهرا التخشع الزائد، فقال له: يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقبة، إنما الخشوع في القلوب [6] . ونظر إلى آخر فوجده يظهر [ ص: 70 ] النسـك والمسـكنة، فخفقه بدرته وقال: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله [7] ، إذ تحتاج التربية أحيانا إلى الشـدة، والشـدة ليست القسوة، وبينهما خيط رفيع لا يدركه إلا من وهب نفسه لله تعالى حقا.

            فإذا كان عمر رضي الله عنه في العاصمة يعلم الناس ويوجههم، فكيف بالناس في الأقاليم؟! لقد أوكل ذلك إلى ولاته وعماله ونبه عليه وقال: "يا أيها الناس! إني والله ما أرسل إليكم عمالا ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فو الذي نفس عمر بيده لأقصنه منه" [8] ؛ فكما أن الأئمة ينبغي أن يكونوا هداة، كذلك مساعدوهم وأعوانهم ينبغي أن يكونوا هداة لا جبابرة وطغاة. كما وجه إلى الأمصار الرئيسة من يعلم الناس أمور دينهم [9] ، إدراكا منه لطبيعة المهمة العظيمة المناطة بالدولة، ألا وهي مهمة نشر الإسلام وتعليمه.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية