الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                223 [ ص: 372 ] ص: وخالفهم في ذلك أكثر العلماء فقالوا: لا يجب الوضوء إلا من حدث .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين أكثر العلماء من الأئمة الأربعة وأصحابهم، وأكثر أصحاب الحديث، وغيرهم، فقالوا: لا يجب الوضوء إلا من أجل حدث ، وذلك لأن آية الوضوء نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة; لأن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون.

                                                وقال الإمام أبو بكر الرازي ما ملخصه: إن ظاهر الآية يقتضي وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة; لأنه جعل القيام إليها شرطا لفعل الصلاة، وحكم الجزاء تأخره عن الشرط، ولا خلاف بين السلف والخلف أن القيام إلى الصلاة ليس بسبب لإيجاب الطهارة، وأن سبب وجوبها شيء آخر غيره، وقد بين ذلك في حديث أسماء بنت زيد : "أن رسول الله - عليه السلام - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث" فدل هذا أن وجوب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة. هذا ما ذكره.

                                                قلت: اختلفوا في سبب وجوب الوضوء; فقالت الظاهرية : هو القيام إلى الصلاة، وكل من قام إليها فعليه أن يتوضأ وإن كان على الوضوء؛ لظاهر الآية.

                                                وقال أهل الطرد: وسببه الحدث; لدورانه معه وجودا وعدما، وقال أبو بكر الرازي سببه الحدث عند القيام إلى الصلاة، كما ذكرنا الآن، وكل ذلك فاسد: أما الأول؛ فلحديث بريدة أنه - عليه السلام - يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، ولأن فيه تسلسلا على ما لا يخفى وهو باطل، وأما الثاني والثالث فكذلك؛ لأنا [ ص: 373 ] لا نسلم أن الدوران دليل العلية، ولئن سلمنا ذلك لا نسلم أن الدوران وجودا موجود; لأنه قد يوجد الحدث ولا يجب الوضوء ما لم تجب الصلاة بالبلوغ ودخول الوقت، وقد يقال: السبب ما يكون مفضيا إلى الشيء ويجتمع معه، والحدث رافع للطهارة، فكيف يكون سببا لها؟! والصحيح في المذهب: أن سبب وجوب الوضوء الصلاة; لأنه نسب إليها، ويقوم بها، ويجب بوجوبها، ويسقط بسقوطها، وهو شرطها فيتعلق بها، حتى لم يجب قصدا لكن عند إرادة الصلاة، والحدث شرطه. فإن قلت: لا يجوز أن تكون الصلاة سببا؛ لأنه لا بد حينئذ يكون الوضوء حكما وشرطا للصلاة، وهو فاسد; لأن المتقدم متأخر والمتأخر متقدم.

                                                قلت: الوضوء شرط الجواز، والصلاة سبب الوجوب، وبينهما مغايرة. فافهم.

                                                وإنما قلنا: إن الحدث شرطه؛ لأن الأمر بالوضوء أمر بالتطهير وهو يقتضي النجاسة لا محالة إما حقيقة أو حكما، والأول منتف بالإجماع، فتعين الثاني، وإلا يلزم إلغاء النص عن الفائدة، وأن القيام المذكور بإطلاقه يتناول كل قيام، وهو غير مراد بالإجماع، فتعين أخص الخصوص وهو القيام إلى الصلاة وهو محدث، قد يكون تقدير الآية: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون. أو: إذا قمتم إلى الصلاة عن المنام. والنوم دليل الحدث. فإن قلت: قد صرح بذكر الحدث في الغسل والتيمم دون الوضوء فما الفائدة فيه؟

                                                قلت: ليعلم أن الوضوء يكون سنة وفرضا، والحدث شرط في الفرض دون السنة; لأن الوضوء على الوضوء نور على نور، والغسل على الغسل والتيمم [ ص: 374 ] على التيمم ليس كذلك. فإن قلت: أليس هذا التقدير زيادة تقيد إطلاق الكتاب بخبر الواحد؟ وأنتم تأبون ذلك كما أبيتم زيادة تعيين الفاتحة على القراءة وزيادة الطهارة على الطواف بخبر الواحد.

                                                قلت: بين الزيادتين فرق، وهو أن هذه الزيادة لو لم تكن فيما نحن فيه يلزم منه فساد بين وحرج ظاهر، وكلاهما منتف، وقد نفاه الشارع بقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج وحججه لا تتناقض، فكانت الزيادة ثابتة بالنص الذي ينفي الحرج، وخبر الواحد وقع موافقا له، وربما يقال: إن هذه الزيادة ثبتت بقراءة ابن مسعود - رضي الله عنه -: "وأنتم محدثون" ورواية ابن بريدة "أنه خطاب للمحدثين" ومثله عن ابن عباس ، وابن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبيدة ، وأبي موسى ، وجابر ، وأبي العالية ، وسعيد بن المسيب ، وإبراهيم ، والحسن ، والضحاك ، وعليه إجماع التابعين والفقهاء.

                                                وعند الشافعية في موجب الوضوء ثلاثة أوجه حكاها المتولي والشاشي عنهم.

                                                أحدها: وجوبه بالحدث، فلولاه لم يجب.

                                                والثاني: وجوبه بالقيام إلى الصلاة، فإنه لا يتعين الوضوء قبله.

                                                والثالث: وهو الصحيح عند المتولي وغيره: يجب بالحدث والقيام إلى الصلاة جميعا.

                                                والأوجه الثلاثة جارية في موجب الغسل هل هو الإنزال والجماع، أم القيام إلى الصلاة، أم كلاهما؟




                                                الخدمات العلمية