الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو جنى بعد الرهن ثم برئ من الجناية بعفو أو صفح أو غيره فهو على حاله رهن لأن أصل الرهن كان صحيحا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا كان العبد مرهونا فجنى بعد الرهن جناية توجب القود أو المال فالرهن صحيح لا يبطل بجنايته الحادثة لأن ملك الراهن لم يزل بالجناية الحادثة فوجب ألا يبطل عقد الرهن بالجناية الحادثة .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهلا بطل عقد الرهن بالجناية الحادثة بعد الرهن كما بطل بالجناية المتقدمة على الرهن ؟ قلنا : استدامة العقد أقوى من ابتدائه فلذلك كان تقدم الجناية مانعا من ابتداء الرهن لضعفه ، ولم يكن حدوث الجناية مانعا من استدامة الرهن لقوته كما أن العدة تمنع من ابتداء النكاح ولا تمنع من استدامته .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أن الرهن لا يبطل بحدوث الجناية فقد تعلق برقبة العبد حقان حق للمرتهن بعقد الرهن ، وحق للمجني عليه بحدوث الجناية فقدم حق المجني عليه على حق المرتهن لأن حق الجناية مقدم على حق المرتهن لثلاثة معان :

                                                                                                                                            [ ص: 103 ] أحدها : أن حق الجناية وجب بلا اختيار وحق المرتهن وجب باختيار ، وما وجب بلا اختيار أوكد مما وجب باختيار ، كما أن الملك بالإرث أوكد من الملك بالبيع ، لأن الإرث بلا اختيار والبيع باختيار .

                                                                                                                                            والثاني : أن حق الجناية متعلق بالرقبة ، وحق الرهن ثابت في الذمة .

                                                                                                                                            إذا كان العبد مرهونا فجنى بعد الرهن جناية توجب القود أو المال فالرهن صحيح لا يبطل بجنايته الحادثة لأن ملك الراهن لم يزل بالجناية الحادثة فوجب ألا يبطل عقد الرهن بالجناية الحادثة .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهلا بطل عقد الرهن بالجناية الحادثة بعد الرهن كما بطل بالجناية المتقدمة على الرهن ؟ قلنا : استدامة العقد أقوى من ابتدائه فلذلك كان تقدم الجناية مانعا من ابتداء الرهن لضعفه ولم يكن حدوث الجناية مانعا من استدامة الرهن لقوته كما أن العدة تمنع من ابتداء النكاح ولا تمنع من استدامته .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أن الرهن لا يبطل بحدوث الجناية فقد تعلق برقبة العبد حقان حق للمرتهن بعقد الرهن ، وحق للمجني عليه بحدوث الجناية فقدم حق المجني عليه على حق المرتهن : لأن حق الجناية مقدم على حق المرتهن لثلاثة معان :

                                                                                                                                            أحدها : أن حق الجناية وجب بلا اختيار وحق المرتهن وجب باختيار ، وما وجب بلا اختيار أوكد مما وجب باختيار كما أن الملك بالإرث أوكد من الملك بالبيع لأن الإرث بلا اختيار والبيع باختيار .

                                                                                                                                            والثاني : أن حق الجناية متعلق بالرقبة وحق الرهن ثابت في الذمة ويتعلق بالرقبة فكان تقديم حق الجناية المتعلقة بالرقبة أولى من تقديم حق الرهن الثابت في الذمة مع تعلقه بالرقبة : لأن فيه استيفاء الحقين وفي تقديم حق الرهن إسقاط أحد الحقين .

                                                                                                                                            كما أن من وجب عليه القصاص في طرفه والقصاص في نفسه يقدم القصاص في نفسه على القصاص في طرفه : لأن فيه استيفاء الحقين ، وفي تقديم القصاص في النفس إسقاط أحد الحقين .

                                                                                                                                            والثالث : أنه لما قوي حق الجناية في منع الرهن إذا كان حق الجناية متقدما ، قوي في تقديمه على حق الرهن إذا كان حق الجناية متأخرا لأن أقوى الحقين يقدم على أضعفهما .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن حق الجناية متقدم على حق الرهن فإن عفا المجني عليه سقط حق الجناية وبقي حق الرهن ، وكان العبد رهنا بعد العفو كما كان رهنا قبل الجناية .

                                                                                                                                            [ ص: 104 ] وإن لم يعف عنها وطالب بحقه فيها فلا يخلو حال الجناية من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن تكون موجبة للقود أو موجبة للمال ، فله أن يقتص فإذا اقتص لم يخل من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن تكون في نفسه ، أو في طرفه ، فإن كانت في طرفه كان رهنا بعد القصاص كما كان رهنا قبل القصاص ، وإن كانت في نفسه بطل الرهن لفواته بعد القصاص .

                                                                                                                                            وإن كانت الجناية موجبة للمال فإن فداه الراهن من ماله كان رهنا بحاله ، وإن لم يفده من ماله بيع في الجناية ، فإن كان أرشها مثل قيمته أو أكثر بيع جميعه فإذا بيع فقد بطل الرهن وإن كان أرشها أقل من قيمته بيع منه بقدر الأرش وكان ما بقي رهنا إلا أن لا يمكن بيع بعضه فيباع جميعه ، ويكون ما فضل من ثمنه بعد الأرش هنا مكانه أو قصاصا من الحق ، ولا يكون للمرتهن خيار في البيع بحدوث ذلك بعد الرهن .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية