الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : إذا جنى المكاتب على سيده فللسيد أن يقتص منه إن كانت عمدا ويجب عليه أرشها إن كانت خطأ بخلاف العبد لأن السيد قد يجب له على مكاتبه مال من غير الجناية ، فجاز أن يجب له عليه أرش الجناية إذ ليس يملك محل الأرش قبل الجناية ، ولما لم يجب للسيد على عبده مال من غير الجناية لم يجب له عليه أرش الجناية ، فلو عجز المكاتب قبل أداء الأرش لسيده سقط الأرش لأنه صار بالعجز عبدا ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإن جنى عبده المرهون على عبد له آخر مرهون فله القصاص فإن عفا على مال فالمال مرهون في يدي مرتهن العبد المجني عليه بحقه الذي به أجزت لسيد العبد أن يأخذ الجناية من عنق عبده الجاني " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح .

                                                                                                                                            وصورتها في عبد مرهون جنى على عبد لسيد آخر ، فلا يخلو حال العبد المجني عليه من أحد أمرين ، إما أن يكون مرهونا أو غير مرهون ، فإن كان العبد المجني عليه غير مرهون فلا يخلو حال الجناية من أحد أمرين ، إما أن تكون عمدا أو خطأ ، فإن كانت خطأ فهي هدر لأنها توجب المال والسيد لا يثبت له في رقبة عبده مال ، وإن كانت عمدا توجب القود فالسيد [ ص: 156 ] بالخيار بين أن يقتص من العبد الجاني وبين أن يعفو ، فإن عفا صارت الجناية هدرا وكان العبد الجاني رهنا بحاله ، وإن اقتص منه فذلك له ردعا للجاني إن كان القصاص في طرفه وزجرا لغيره إن كان في نفسه لقوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] فإن كان القصاص في نفسه بطل الرهن ، وإن كان القصاص في طرف من أطرافه كان رهنا بحاله .

                                                                                                                                            فصل : وإن كان العبد المجني عليه مرهونا فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون مرتهنا عند مرتهن ثان غير مرتهن العبد الجاني فلا يخلو حال الجناية من أحد أمرين ، إما أن تكون عمدا أو خطأ ، فإن كانت خطأ فأرشها ثابت في رقبة الجاني لتعلق حق المرتهن برقبة المجني عليه وإذا كان كذلك فلا يخلو حال الأرش من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون أقل من قيمة الجاني .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون أكثر من قيمته .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون مثل قيمته .

                                                                                                                                            فإن كان الأرش أقل من قيمة الجاني بأن كانت قيمة الجاني ألف درهم وأرش الجناية خمسمائة فالواجب أن يباع من الجاني بقدر الأرش وذلك نصفه ويكون النصف الثاني رهنا بحاله ، ويؤخذ ثمن ما بيع من الأرش فيوضع رهنا مكان المجني عليه ، أو قصاصا من الحق المرهون فيه ، وإن كان أرش الجناية مثل قيمة الجاني أو كان أرشها أكثر من قيمة الجاني فهما سواء وفيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ينقل الجاني من الرهن فيوضع رهنا في يدي مرتهن العبد المجني عليه من غير بيع لأن بيعه إنما يجوز ليكون الفاضل من ثمنه رهنا في يد مرتهنه فإذا استوعبت الجناية جميع قيمته لم يكن لبيعه وارتهان ثمنه معنى .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الجاني يباع ويوضع ثمنه رهنا مكان المجني عليه لجواز حدوث راغب يشتريه بأكثر من أرش جنايته ، فيكون الفاضل منها رهنا بيد مرتهنه وهذا أصح الوجهين إلا أن يقطع بعدم الزيادة ، وإن كانت الجناية عمدا فالسيد بالخيار بين أن يقتص من الجاني وبين أن يبيعه في الأرش ، فإذا أراد القصاص فذاك له ، فإذا اقتص منه وكان القصاص في النفس فقد بطل الرهن ، وإن كان في طرف كانا بعد الجناية والقصاص رهنا بحالهما ، وإن عدل عن القصاص إلى المال فذلك له ويكون حكم الأرش كحكم الأرش في جناية الخطأ على ما مضى .

                                                                                                                                            [ ص: 157 ] فصل : والضرب الثاني : أن يكون العبد المجني عليه مرهونا عند مرتهن العبد الجاني فيكون مرتهنهما واحدا ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكونا مرهونين في حق واحد فالحكم فيه على ما ذكرنا في المجني عليه لو كان غير مرهون فإن كانت الجناية خطأ فهو هدر لأن تعلق حق المرتهن بالمجني عليه كتعلقه بالجاني ، فلم يكن لبيع الجاني في أرش الجناية معنى ، وإن كانت عمدا فالسيد بالخيار بين أن يقتص أو يعفو عنه ، فإن اقتص منه بطل الرهن فيهما جميعا إن كان القصاص في النفس ، وإن عفا عن القصاص صارت هدرا وكان الجاني على حاله رهنا .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكونا مرهونين عند مرتهن واحد بحقين في عقدين فهذا على أربعة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يستوي قدر الحقين وتستوي قيمة العبدين .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يختلف قدر الحقين وتختلف قيمة العبدين .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يستوي قدر الحقين وتختلف قيمة العبدين .

                                                                                                                                            والضرب الرابع : أن يختلف قدر الحقين وتستوي قيمة العبدين .

                                                                                                                                            فصل : فأما الضرب الأول : وهو أن يستوي قدر الحقين وتستوي قيمة العبدين فمثاله أن يكون كل واحد من الحقين ألفا وقيمة كل واحد من العبدين ألفا ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يستوي وصف الحقين بأن يكون كل واحد منهما حالا أو يكون كل واحد منهما مؤجلا ، فالجناية هدر لأنه لا يستفيد المرتهن بنقل ثمن القاتل إلى موضع المقتول شيئا .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يختلف وصف الحقين بأن يكون أحدهما حالا والآخر مؤجلا ، فللمرتهن بيع القاتل ووضع ثمنه موضع المقتول ، ولا تكون الجناية هدرا لأنه إن كان المقتول رهنا في الحال والقاتل في المؤجل استفاد ببيع القاتل أن يصير ثمنه رهنا في معجل بعد أن كان رهنا في مؤجل ، وإن كان القاتل في المعجل والمقتول في المؤجل فقد يكون الراهن موسرا في الحال يقدر على أداء المعجل ولا يأمن المرتهن أن يعسر الراهن عند حلول المؤجل فيستفيد المرتهن ببيع القاتل أن يعتبر ثمنه رهنا قيما يخاف إعسار الراهن به في المؤجل .

                                                                                                                                            فصل : وأما الضرب الثاني : وهو أن يستوي قدر الحقين وتختلف قيمة العبدين فمثاله [ ص: 158 ] أن يكون قدر كل واحد من الحقين ألفا ، وتكون قيمة أحد العبدين ألفا والآخر خمسمائة فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون القاتل أكثرهما قيمة من المقتول ، فللراهن أن يبيع من القاتل بقدر قيمة المقتول وهو النصف فيكون رهنا مكان المقتول ، ولا تكون الجناية هدرا لأن المرتهن قد يستفيد بها أن يعتبر له في كل واحد من الحقين رهنا .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون القاتل أقل قيمة من المقتول وهو أن تكون قيمة القاتل خمسمائة وقيمة المقتول ألفا فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون القاتل رهنا في أكثر الحقين فالجناية هدر لأن المرتهن لا يستفيد بنقل ثمنه إلى أقل الحقين شيئا بل يعتبر مستضرا .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يكون القاتل رهنا في أقل الحقين فللمرتهن بيع القاتل وترك ثمنه رهنا مكان المقتول ولا تكون الجناية هدرا لأن المرتهن يستفيد بها أن يصير الثمن رهنا في أكثر الحقين .

                                                                                                                                            فصل : وأما الضرب الرابع وهو أن يختلف قدر الحقين وتستوي قيمة العبدين ، فمثاله أن يكون قدر أحد الحقين ألفا والآخر خمسمائة ، وتكون قيمة كل واحد من العبدين ألفا فهو على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون القاتل رهنا في أكثر الحقين فالجناية هدر : لأن المرتهن لا يستفيد بنقل قيمته إلى موضع القاتل شيئا بل يصير مستضرا .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون القاتل رهنا في أقل الحقين فللمرتهن بيع القاتل وترك ثمنه رهنا للمقتول ولا تكون الجناية هدرا لأن المرتهن يستفيد بها أن يصير الثمن رهنا في أكثر الحقين بعد أن كان رهنا في أقلهما فهذا حكم جناية العبد المرهون على عبد الراهن مرهون وغير مرهون ، وكذلك لو جنى على مدبره وأم ولده .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا جنى العبد المرهون على مكاتب لسيده فلا يخلو حال الجناية من أحد أمرين :

                                                                                                                                            أن تكون على نفسه أو على طرفه ، فإن كانت الجناية على نفسه فحكمها حكم الجناية على عبد سيده ، لأن المكاتب إذا مات على كتابته مات عبدا ، فإن كانت الجناية خطأ فهي هدر ، وإن كانت عمدا فللسيد القصاص فإن عفا عن القصاص صارت الجناية هدرا ، فإن كانت الجناية على طرف المكاتب نظر فإن كانت خطأ ثبت للمكاتب أرش الجناية في رقبة [ ص: 159 ] العبد الجاني فيباع فيها وإن كان ملكا لسيده ، حق لأن المكاتب قد يصح أن يثبت له حق على سيده فكذا يصح أن يثبت له حق في رقبة عبد سيده ، فإن كانت عمدا فالمكاتب بالخيار بين أن يقتص أو يعفو عن القصاص إلى الأرش أو يعفو عن القصاص والأرش ، فإن قيل أليس المكاتب ممنوعا من العفو عن المال فكيف يصح عفوه عن الأرش وهو مال ؟ قلنا : إنما منع من العفو لحق السيد وحفظ ماله وهذا حق على السيد فصح عفوه عنه ، فلو لم يقتص المكاتب ولا أخذ الأرش حتى مات على كتابته فللسيد أن يقتص من عبده الجاني وله أن يبيعه في الأرش : لأنه وإن لم يصح أن يثبت له ابتداء في رقبة عبده الأرش ، فهو إنما يملك ذلك عن المكاتب الذي قد كان مالكا للأرش والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية