الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وكل ولد أمة ونتاج ماشية وثمر شجرة ونخلة فذلك كله خارج من الرهن يسلم للراهن " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد ذكرنا أن نماء الرهن ملك للراهن ، فأما دخوله في الرهن فلا يخلو حاله من ثلاثة أضرب .

                                                                                                                                            أحدها : ما يدخل في الرهن : وهو النماء المتصل كالطول والسمن .

                                                                                                                                            والثاني : ما لا يدخل في الرهن : وهو كسب العبيد والإماء .

                                                                                                                                            والثالث : ما اختلف فيه الفقهاء : وهو ما سوى الكسب من النماء المنفصل كالثمرة والنتاج والدر والصوف وأولاد الإماء ، ففيه ثلاثة مذاهب .

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب الشافعي أن جميع ذلك خارج من الرهن .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب أبي حنيفة أن جميع ذلك داخل في الرهن .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب مالك أن ما كان من ذلك من جنس الرهن كالأولاد والنتاج ، فإنه يكون داخلا في الرهن ، وما كان من غير جنسه كالدر والثمرة فإنه يكون خارجا من الرهن .

                                                                                                                                            واستدلوا بأنه نماء في الرهن فوجب أن يكون داخلا في الرهن كالنماء المتصل ، ولأنه محبوس على استيفاء الحق فوجب أن يكون نماؤه محبوسا معه ، كالمبيع إذا حبسه البائع على ثمنه كان نماؤه الحادث محبوسا معه كالمبيع ، ولأنه عقد لا يصح إلا على ملك فوجب أن [ ص: 209 ] يكون النماء الحادث بعده تابعا له كالمبيع ، ولأنه عقد يقضي إلى زوال الملك فوجب أن يكون الولد فيه تابعا لأمه كالكتابة .

                                                                                                                                            ولأنه حق ثابت في الرقبة ، فوجب أن يكون الولد فيه تابعا لأمه كأم الولد والمدبرة ، ولأن الولد لما كان تابعا لأمه في الزكاة والوصية والهدي والأضحية وجب أن يكون تابعا لأمه في الرهن .

                                                                                                                                            ودليلنا حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الرهن محلوب ومركوب فلما لم يكن ذلك للمرتهن ثبت أنه للراهن ، ولرواية سعيد بن المسيب مرسلا ومسندا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يغلق الرهن الرهن من راهنه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه وغنمه نماؤه .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم غنمه ملكا للراهن ولم يجعله خارجا من الرهن ، ونحن نقول : إنه ملك للراهن ، وإنما نختلف في خروجه من الرهن ، فالجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما أنه جعل غنم الرهن ملكا للراهن على الإطلاق ، ودخوله في الرهن يمنع من إطلاقه .

                                                                                                                                            والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في الحديث بين الرهن وبين غنمه ، ومعلوم أن الرهن على ملك راهنه ، فعلم أن ما أضافه إليه من غنمه مخالف لما لم يضفه إليه من رهنه ولا وجه يختلفان فيه إلا خروجه من الرهن وعدم دخوله فيه ، ولأنه نماء منفصل من الرهن فوجب أن يكون خارجا من الرهن كالكسب ، ولأن النماء عين يصح أن تفرد بالعقد ؛ فلم يجز أن تدخل في الرهن إلا بعقد كالأم ، ولأن الرهن وثيقة في الحق فوجب أن لا يسري حكمه للولد كالشهادة والضمان .

                                                                                                                                            ولأنها عين محتبسة لاستيفاء الحق منها من غير زوال ملك مالكها ؛ فوجب أن لا يتبعها ولدها كالعين التي آجرها ، ولأن حق الجناية آكد ثبوتا من حق الرهن ، لأن حق الجناية يطرأ على الرهن ، وحق الرهن لا يطرأ على الجناية ، ثم كان حق الجناية مع تأكده لا يسري على ولد الجانية ، فحق الرهن مع ضعفه أولى ألا يسري إلى ولد المرهونة .

                                                                                                                                            وتحرير علته ، أنه حق تعلق بالرقبة لاستيفائه منها ، فوجب ألا يسري إلى ولدها كالجناية ، فأما الجواب عن قياسهم على النماء المتصل فمنتقض أولا بالكسب ، ثم المعنى في المتصل أنه تابع للأصل في موضع الأصول ، لعدم تمييزه عنه والمنفصل غير تابع للأصول لتمييزه عنه ، ألا ترى أن المتصل تابع للأصل في الإجارة والجناية والبيع إذا رد بعيب ، فكذلك يتبع الأصل في الرهن ، والمنفصل لا يتبع الأصل في الإجارة والجناية ولا المبيع إذا رد بعيب ، فكذلك لا يتبع الأصل في الرهن .

                                                                                                                                            [ ص: 210 ] وأما الجواب عن قياسهم على المبيع إذا حبسه البائع على ثمنه فغير مسلم لأن عندنا أن البائع إذا حبس المبيع لاستيفاء ثمنه لم يكن له حبس النماء الحادث بعد مبيعه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على البيع فدليلنا أنه يوجب كون النماء لمالك الأصل ، لأن المشتري قد ملك الأصل ، كذلك الرهن لما كان على ملك الراهن وجب أن يكون خالصا للراهن .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الكتابة بعلة أنه عقد يفضي إلى زوال الملك فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : منع الوصف بأنه يفضي إلى زوال الملك ، لأن الكتابة وإن أفضت إلى زوال الملك فالرهن لا يفضي إلى زوال الملك : لأنه يفضي إلى استيفائه وثيقة لمرتهنه وإن طالت المدة ، وإنما بيعه يفضي إلى زوال الملك .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أنه وإن سلم لهم الوصف ، فقد اختلف قول الشافعي في ولد المكاتبة على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه موقوف لا يتبعها وكذا ولد المدبرة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن حكمه معتبر بحكم أمه في الحرية والرق ، فإن عتقت المكاتبة بالأداء والمدبرة بموت السيد عتق ولدهما وإن عجزت ورقت رق ولدها ، فإن قيل لا يتبعها سقط السؤال .

                                                                                                                                            وإن قيل يتبعها فهو ليس يتبعها في الكتابة وإنما يتبعها في الحرية ، فلم يسلم لهم الحكم ؛ لأنهم يقولون : إن ولد المرهونة داخل في الرهن ، وولد المكاتبة قد بينا أنه لا يدخل في الكتابة .

                                                                                                                                            والجواب الثالث : أن المكاتبة لما تبعها كسبها تبعها ولدها ، والرهن لما لم يتبعه الكسب لم يتبعه الولد ، والجواب عن قياسهم على أم الولد في أن ولدها من غير السيد يتبعها في العتق بموت السيد ، فالقياس منتقض بولد الجانية .

                                                                                                                                            ثم المعنى أن سبب حريتها مستقر استقرارا يمنع من إزالته ، فجاز أن يسري إلى الولد لقوته ، والرهن لا يستقر استقرارا يمنع من إزالته ، فلم يسر إلى الولد لضعفه ، وأما المدبرة فهل يتبعها ولدها أم لا ؟ على قولين ، وأما المكاتبة فلا يتبعها ولدها في الكتابة ، ولكن هل يثبت له حكمها أم لا ؟ على قولين .

                                                                                                                                            وأما نتاج الماشية ، فإنما كان تبعا للأمهات في حول الزكاة لأنه لما ارتفق أرباب الأموال بالربا والماخض ارتفق المساكين بحول السخال ، وليس كذلك الرهن ، فأما ولد الموصى بها ، فإن كان قبل موت الموصي لم يتبعها ، وإن كان بعد الموت والقبول تبعها لانتقال الملك ، وإن كان بعد الموت وقبل القبول فعلى قولين :

                                                                                                                                            [ ص: 211 ] أحدهما : للورثة ، هذا إذا قيل إن القبول هو التملك .

                                                                                                                                            والثاني : للموصي له ، وهذا إذا قيل إن القول يبنى على ملك سابق ، وكذلك الحكم في ولد المرهونة .

                                                                                                                                            وأما ولد الهدي والأضحية فيتبع للهدي والأضحية لزوال الملك عنها إلى المساكين ، وكان الولد حادثا على ملك المساكين .

                                                                                                                                            وأما ولد المغصوبة فيتبع لأمه في الضمان لحصول التعدي فيهما .

                                                                                                                                            وأما ولد المودعة ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كأمه أمانة لا يلزمه ضمانه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه مضمون بخلاف أمه : لأنه مؤتمن على أمه دون ولدها .

                                                                                                                                            وأما ولد العارية ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كأمه مضمون لأنه فرع لأصل مضمون .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه غير مضمون بخلاف أمه ، لأن الانتفاع بالأم أوجب ضمانها ، ولما لم يكن الانتفاع بالولد لم يجب ضمانه والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية