الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال المزني : " قال الله جل ثناؤه قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم [ يوسف : 72 ] وقال عز وجل سلهم أيهم بذلك زعيم [ القلم : 40 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " والزعيم غارم " والزعيم في اللغة هو الكفيل ، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وضعت قال صلى الله عليه وسلم هل على صاحبكم من دين ؟ فقالوا : نعم درهمان ، قال " صلوا على صاحبكم " فقال علي رضوان الله عليه هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على علي رضي الله عنه فقال " جزاك الله عن الإسلام خيرا وفك رهانك كما فككت رهان أخيك " ( قال المزني ) قلت أنا وفي ذلك دليل أن الدين الذي كان على الميت لزم غيره بأن ضمنه وروى الشافعي في قسم الصدقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة " ذكر منها رجلا تحمل بحمالة فحلت الصدقة ( قلت أنا ) فكانت الصدقة محرمة قبل الحمالة فلما تحمل لزمه الغرم بالحمالة فخرج من معناه الأول إلى أن حلت له الصدقة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الضمان فهو أخذ الوثائق في الأموال ؛ لأن الوثائق ثلاثة : الشهادة والرهن والضمان .

                                                                                                                                            والدليل على جواز الضمان وصحته الكتاب والسنة ، فأما الكتاب : فقوله تعالى : قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم [ يوسف : 72 ] فإن قيل : فالاستدلال بهذه الآية لا يصح من وجوه ثلاثة :

                                                                                                                                            [ ص: 431 ] أحدهما : أنها حكاية حال محرفة ونقل قصة غير صحيحة ؛ لأن الصواع لم يفقد والقوم لم يسرقوا ، وإذا كان موضوعا كذبا كان الاستدلال بها فاسدا .

                                                                                                                                            فالجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن هذا من قول المنادي ، ولم يكن يعلم بما فعل يوسف ، فلما فقد الصواع ظن أنهم قد سرقوه فنادى بهذا وهو يعتقد أنه حق وصدق .

                                                                                                                                            والثاني : أن يوسف فعل ذلك عقوبة لإخوته فخرج من باب الكذب إلى حد العقوبة والتأديب ، ثم رغب الناس فيما بذله لهم ، بما قد استقر عندهم لزومه ووجوبه ؛ ليكون أدعى إلى طلبتهم وتحقيق القول عليهم زيادة في عقوبتهم .

                                                                                                                                            والسؤال الثاني : أن الآية تناولت ضمان مال مجهول ؛ لأن حمل البعير مجهول وضمان المجهول باطل .

                                                                                                                                            فالجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن حمل البعير كان عندهم عبارة عن قدر معلوم كالوسق كان موضوعا لحمل الناقة ثم صار مستعملا في قدر معلوم .

                                                                                                                                            والثاني : أن الآية دالة على أمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : جواز الضمان .

                                                                                                                                            والثاني : صحته في القدر المجهول ، فلما خرج بالدليل ضمان المجهول كان الباقي على ما اقتضاه التنزيل .

                                                                                                                                            والسؤال الثالث : أنه ضمان مال الجعالة ، وضمان مال الجعالة باطل .

                                                                                                                                            والجواب عنه : أن أصحابنا قد اختلفوا في جواز ضمان مال الجعالة على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز ضمانه فعلى هذا سقط السؤال .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لا يصح ، فعلى هذا لا يمتنع قيام الدليل على فساد ضمان مال الجعالة من التعلق بباقي الآية ، وقال تعالى : سلهم أيهم بذلك زعيم [ القلم : 40 ] وهذا وإن كان على طريق التحدي فهو دال على جواز الضمان والزعيم الضمين وكذلك الكفيل والحميل والصبير ، ومعنى جميعها واحد غير أن العرف جار بأن الضمين مستعمل في الأموال ، والحميل في الديات ، والكفيل في النفوس ، والزعيم في الأمور العظام ، والصبير في الجميع ، وإن كان الضمان يصح بكل واحد منهم ويلزم .

                                                                                                                                            وأما السنة فروى ابن عباس عن شرحبيل عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 432 ] يقول : إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ، لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها قيل : يا رسول الله ولا الطعام ، قال : " ذلك أفضل أموالنا " ، ثم قال : العارية مضمونة مؤداة ، والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم .

                                                                                                                                            وروى زائدة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : توفي رجل منا فغسلناه ثم كفناه ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فخطا خطوة ، ثم قال : أعليه دين ؟ قلنا : ديناران ، فانصرف فتحملها أبو قتادة ، وقال : علي الديناران ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أعليك حق الغريم ، وبرئ الميت منه ، قال : نعم ، قال : فصلى عليه ، ثم قال بعد ذلك بيوم : ما فعل الديناران ؟ ، قال : إنما مات أمس ، ثم عاد عليه بالغد ، فقال : قد قضيتها ، قال الآن بردت عليه جلده ، وروى أبو سعيد الخدري قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وضعت قال صلى الله عليه وسلم : هل على صاحبكم من دين ، قالوا : نعم درهمان ، قال : صلوا على صاحبكم ، فقال علي رضي الله عنه هما علي يا رسول الله ، وأنا لهما ضامن ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على علي فقال : جزاك الله عن الإسلام خيرا ، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك ، وروى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير ، وحلف لا يفارقه حتى يقضيه ، أو يأتيه بحميل ، فجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إن هذا لزمني فاستنظرته شهرا فأبى حتى آتيه بحميل ، أو أقضيه فوالله ما أجد حميلا وما عندي قضاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تستنظره إلا شهرا ، قال : لا ، قال : فأنا أتحمل بها عنك فتحمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب الرجل فأتاه بقدر ما وعده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أين لك هذا الذهب ؟ قال من معدن ، قال : اذهب فلا حاجة لنا فيها ليس فيها خير وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى عبد الحميد بن أبي أمية عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة فقال : صل عليها ، فقال أليس عليه دين ؟ قالوا نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينفعك أن أصلي على رجل وهو مرتهن في قبره فلو ضمن رجل دينه قمت فصليت عليه فإن صلاتي تنفعه .

                                                                                                                                            وروى ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين ، فيسأل : هل ترك قضاء ؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه ، وإلا قال للمسلمين : صلوا على صاحبكم ، فلما فتح الله عليه الفتوح ، قام فقال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته .

                                                                                                                                            وفي قوله " من ترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته " تأويلان :

                                                                                                                                            [ ص: 433 ] أحدهما : معناه من ترك دينا عليه ولا قضاء فعلي قضاؤه من مال الصدقات وسهم الغارمين ، ومن ترك مالا لا دين عليه فهو لورثته .

                                                                                                                                            والثاني : معناه : من ترك دينا له ومالا فعلي اقتضاء الدين واستخراجه ممن هو عليه حتى يصير مع ماله الذي تركه إلى ورثته .

                                                                                                                                            فإن قيل : فلم كان يمتنع من الصلاة على من عليه دين إذا مات معسرا ، ولا يمتنع من الصلاة إذا مات موسرا ؟ والمعسر في الظاهر معذور ، والموسر غير معذور ؟ ، قيل : لأن الموسر يمكن قضاء دينه من تركته والمعسر لا يمكن قضاء دينه ، وقد قال : نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى ، فلما كان مرتهنا بدينه لم تنفعه الصلاة عليه ولا الدعاء له إلا بعد قضائه ، وقيل : بل كان يفعل ذلك زجرا عن أن يتسرع الناس إلى أخذ الديون ليكفوا عنها ، وقيل : بل كان يفعل ذلك ليرغب الناس في قضاء دين المعسر فلا يضيع لأحد دين ولا يبقى على معسر دين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية