الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا يمنع المرتهن السيد من العفو بلا مال لأنه لا يكون في العبد مال حتى يختاره الولي وما فضل بعد الجناية فهو رهن " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الجناية على العبد المرهون ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون خطأ يوجب المال .

                                                                                                                                            والثاني : أن تكون عمدا يوجب القود ، فإن كانت خطأ يوجب المال فعلى أربعة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : ما استوى فيه ضمان الجناية وضمان الغصب .

                                                                                                                                            والثاني : ما يضمن بالجناية ولا يضمن بالغصب .

                                                                                                                                            والثالث : ما يزيد فيه ضمان الجناية على ضمان الغصب .

                                                                                                                                            والرابع : ما ينقص فيه ضمان الجناية عن ضمان الغصب .

                                                                                                                                            فأما الضرب الأول : وهو ما استوى فيه ضمان الجناية وضمان الغصب ففي ثلاثة أحوال في النفس التي يجب فيها كمال القيمة بالجناية كما يجب فيها كمال القيمة بالغصب .

                                                                                                                                            والثانية : فيما لا يتقدر أرشه من الجراح ، يجب فيه ما بين القيمتين كما يجب في نقص الغصب ما بين القيمتين .

                                                                                                                                            والثالث : فيما يتقدر أرشه من الجراح والأطرف إذا ساوى بالاتفاق ضمان الجناية فيه ضمان الغصب فيكون الواجب بالجناية في هذه الأحوال الثلاثة رهنا يتعلق به حق المرتهن .

                                                                                                                                            وليس للراهن العفو عنه بغير إذن المرتهن ، لأن حقه قد تعلق بأرش الجناية كما كان متعلقا برقبة العبد قبل الجناية ، وإن عفا عن الأرش بغير إذن المرتهن كان عفوه باطلا [ ص: 160 ] وللمرتهن أخذ الأرش من الجاني ليكون رهنا مكان العبد أو قصاصا من الحق فإن أخذ المرتهن الأرش فكان رهنا مكان العبد أو قصاصا من الحق ، ثم إن الراهن قضى المرتهن حقه من ماله ، فللمرتهن أن يأخذ الأرش ويتملكه ولا يلزمه أن يرده على الجاني لأجل ما تقدم من عفوه : لأن عفوه وقع باطلا لم يبرئ الجاني فكان الأرش مأخوذا منه بحق لازم فلم يجب رده عليه .

                                                                                                                                            وأما الضرب الثاني وهو ما يضمن بالجناية ولا يضمن بالغصب فمثاله أن يقطع الجاني ذكره فتجب فيه كمال قيمته ولا ينقص ذلك من قيمته فتصير هذه القيمة بالجناية مضمونة وبالغصب غير مضمونة ، وإذا كان كذلك فالقيمة الواجبة بهذه الجناية يختص بها الراهن ولا تكون رهنا يتعلق به حق المرتهن كالنماء لأن حق المرتهن فيما قابل النقص المضمون بالغصب ، ولو عفا الراهن عنه صح عفوه وبرئ الجاني منه : لأنه عفا عما لم يتعلق به حق المرتهن فكان عفوه صحيحا والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : وأما الضرب الثالث : وهو ما يزيد فيه ضمان الجناية على ضمان الغصب فمثاله : أن يقطع أذنيه فيجب فيه كمال قيمته ويكون الناقص منه بهذه الجناية نصف قيمته وهو القدر المضمون بالغصب فيكون نصف القيمة وهو قدر ما يضمن بالغصب وهنا يتعلق به حق المرتهن والنصف الباقي الزائد بالجناية المقدرة على ضمان الغصب المعتبر بالنقص يختص به الراهن ولا يتعلق به حق المرتهن فلو عفا الراهن عن هذه الجناية صح عفوه عن ما يختص به من ضمان الجناية الزايد على ضمان الغصب وهو النصف لأنه خالص له لا يتعلق به حق المرتهن ، ولم يصح عفوه عن نصف القيمة الذي يضمنه بالغصب لتعلق حق المرتهن به ، فلو كان الجاني قد قطع أنفه ولسانه فواجب عليه قيمتان ، وكان ما نقص من قيمته بهذه الجناية النصف لتعلق حق المرتهن بنصف القيمة رهنا واختص الراهن بالباقي وهو قيمة ونصف .

                                                                                                                                            فلو عفا الراهن صح عفوه عن قيمة ونصف وهو قدر ما يختص به ولم يصح عفوه عن نصف القيمة لتعلق حق المرتهن به .

                                                                                                                                            وأما الضرب الرابع : وهو ما ينقص فيه ضمان الجناية عن ضمان الغصب فمثاله أن تقطع إحدى يديه فيجب عليه نصف القيمة ويكون الناقص منه بهذه الجناية ثلاثة أرباع القيمة ، فليس على الجاني أكثر من نصف القيمة لأنه يضمنه بالجناية ويكون النقص الزايد على ذلك غير مضمون كالشيء التالف ، ويكون نصف القيمة المأخوذة رهنا يتعلق به حق المرتهن ، فلو عفا الراهن عنه لم يصح عفوه عن شيء منه ، فهذا حكم الجناية إذا كانت خطأ توجب المال .

                                                                                                                                            [ ص: 161 ] فصل : فإن كانت الجناية عمدا توجب القود فللراهن أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يطلب القصاص دون المال والثانية أن يعفو عن القصاص إلى المال ، والثالثة أن يعفو عن القصاص وعن المال ، والرابعة أن يعفو عن القصاص ولا يصرح بالعفو عن المال .

                                                                                                                                            فأما الحالة الأولى : وهي أن يطلب القصاص دون المال فله أن يقتص ولا يأخذ المال وليس للمرتهن منعه من القصاص وجبره على أخذ المال ، وأما الحال الثانية وهي أن يعفو عن القصاص إلى المال فله ذلك وليس للمرتهن منعه من المال وجبره على القصاص ، وأما الحالة الثالثة وهي أن يعفو عن القصاص وعن المال فيصح عفوه عن القصاص وإن كان بغير إذن المرتهن لأنه لا حظ فيه للمرتهن ، وهل يصح عفوه عن المال بغير إذن المرتهن فيما قابل ضمان الغصب أم لا ؟ على قولين مبنيين على اختلاف قولي الشافعي في جناية العمد ما الذي توجب ؟ وأحد القولين أنها توجب القود .

                                                                                                                                            فأما المال فلا يجب إلا باختيار الولي وعلى هذا يصح عفوه لأن المال لا يجب إلا باختياره وهو لا يجبر على اختيار المال ، والقول الثاني أنها توجب أحد شيئين ، إما القود أو المال فعلى هذا لا يصح عفوه عن المال لتقدم وجوبه وتعلق حق المرتهن به كجناية الخطأ .

                                                                                                                                            وأما الحال الرابعة : وهو أن يعفو عن القصاص ولا يصرح بالعفو عن المال ولا يختاره ، فقد سقط القصاص بعفوه وفي المال قولان ، أحدهما أنه واجب إذا قيل إن جناية العمد توجب القود أو المال لأن العفو عن أحد الحقين لا يكون عفوا عن الآخر ، والقول الثاني أن المال لا يجب وقد سقطت المطالبة به إذا قيل إن المال في جناية العمد لا يجب إلا باختيار الولي والاختيار لم يوجد منه فيجب المال به وقد سقط خياره : لأنه على الفور بعد عفوه .

                                                                                                                                            فصل : قد مضى الكلام في جناية الأجنبي على العبد المرهون عمدا أو خطأ ، فأما جناية السيد على عبده المرهون فهي مضمونة عليه بالأرش ضمان غصب لما تعلق برقبته من حق المرتهن ، فلو كان السيد قد قطع إحدى يديه وجب عليه ما نقص من قيمته ولم يتقدر ذلك بنصف القيمة كالأجنبي ، فإن كان الناقص من قيمته بالقطع نصف القيمة وجب عليه النصف ، وقد استوى النقص بها والمقدر فيها ، وإن كان الناقص بالقطع ثلث القيمة وجب عليه الثلث ويكون النقص بها أقل من المقدر فيها ، وإن كان الناقص من قيمته بالقطع ثلثا القيمة وجب عليه الثلثان ويكون النقص بها أكثر من المقدر فيها ، فإن قيل : أفيجب على السيد بجناية أكثر مما يجب على الأجنبي بجنايته ؟ قيل : لما اختلف سبب وجوب الضمان عليهما فكان مضمونا على الأجنبي بالجناية وعلى السيد بالغصب وجب أن يعتبر في الأجنبي [ ص: 162 ] ضمان المقدر بالجنايات سواء كان أكثر من النقص أو أقل وفي السيد ضمان النقص بالغصب سواء كان أكثر من المقدر أو أقل ، فإن ضمنه الأجنبي بالغصب والجناية لزمه ضمان أكثر الأرشين من المقدر بالجناية أو النقص بالغصب .

                                                                                                                                            مثاله : أن يغصبه أجنبي ثم يقطع يده ، فإن نقص من قيمته بالقطع أقل من نصف القيمة ضمنه الجاني بنصف القيمة ضمان الجناية لأنه أكثر الأرشين ، وكان الزايد على النقص يختص به الراهن ، وإن نقص من قيمته بالقطع أكثر من نصف القيمة ضمنه الجاني بالنقص ضمان غصب ولم يضمنه بالنصف لأن ضمان الغصب أكثر الأرشين ، ويكون جميع ذلك رهنا لا يختص الراهن بشيء منه والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية