الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال المزني : قلت أنا : وجملة قوله في اختلاف الراهن والمرتهن أن القول قول الراهن في الحق والقول قول المرتهن في الرهن فيما يشبه ولا يشبه ويحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن المزني ذكر جملة مجملة لها تفصيل ، وبين أصحابنا في تأويلها خلاف ، وللكلام فيها مقدمة ، فمقدمتها وما به ينكشف إجمالها شرح المذهب في اختلاف الراهن والمرتهن في الحق ، وفي اختلافهما في الرهن ، فأما اختلافهما في الحق فعلى ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يختلفا في أصله .

                                                                                                                                            والثاني : أن يختلفا في قدره .

                                                                                                                                            والثالث : أن يختلفا في وصفه .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول وهو أن يختلفا في أصل الحق فصورته أن يقول المرتهن : لي عليك ألف درهم من بيع أو قرض رهنتني بها عبدك سالما ، فيقول الراهن : ليس لك علي شيء من بيع ولا قرض ، أو يقول : أقرضتني ألفا ولم تقبضني ورهنتك سالما على أن تقبضني ما أقرضتني ، فالقول قول الراهن مع يمينه ، بالله ما للمرتهن عليه الألف التي ادعاها ، أو ما أقبضه الألف التي أقرضه إياها ، فإذا حلف الراهن برئت ذمته في الحكم ولا رهن بينهما ، لأن الرهن إنما يصح بعد ثبوت الحق .

                                                                                                                                            فصل : وأما القسم الثاني وهو اختلافهما في قدر الحق فصورته أن يقول المرتهن ، رهنتني عبدك سالما في ألف ، فيقول الراهن : رهنتك في خمسمائة ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون الراهن مقرا بخمسمائة ومنكرا ما زاد عليها .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون مقرا بالألف كلها ومنكرا أن يكون سالم رهنا إلا في خمسمائة منها ، فإن كان مقرا بخمسمائة ومنكرا ما زاد عليها ، فالقول قول الراهن مع يمينه في نفس ما زاد عليها ، فيقول : والله ما له أكثر من خمسمائة ، فإذا حلف برئت ذمته في الحكم مما زاد على خمسمائة ، وكان سالم رهنا بها .

                                                                                                                                            [ ص: 193 ] وإن كان مقرا بالألف كلها ومنكرا أن يكون سالم رهنا إلا في خمسمائة منها فالقول قول الراهن مع يمينه : بالله ما رهنه سالما إلا في خمسمائة وسواء كان سالم يساوي ألفا أو خمسمائة .

                                                                                                                                            وقال مالك : إن كان سالم المرهون يساوي خمسمائة فما دون فالقول قول الراهن مع يمينه ويكون رهنا بخمسمائة ، وإن كان سالم يساوي ألفا فما زاد فالقول قول المرتهن مع يمينه ، ويكون رهنا بالألف ، استدلالا بالعادة واستشهادا بالعرف ، إن العبد يكون رهنا بقدر قيمته والدلالة عليهم عموم قوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر .

                                                                                                                                            ولأن إنكار الراهن ما زاد على خمسمائة أغلظ من إنكاره الرهن فيها مع إقراره بها ، فلما لم يكن الاستشهاد بالعرف في اعتباره بقيمة العبد دليلا على قبول قول المرتهن في إثبات الزيادة لم يكن دليلا على قبوله في إثبات الرهن في الزيادة ، ولأن إنكاره الألف في جميع الرهن أعظم من إنكاره الرهن في بعض الألف ، فلما كان لو أنكر الرهن في جميع الألف كان القول قوله ولم يعتبر العرف في الراهن أنه مما لا يوثق بذمته إلا برهن ، ولا في المرتهن أنه مما لا يوثق بذمته إلا برهن وجب إذا أنكر الرهن في بعض الألف أن يكون القول قوله مع يمينه ولا يعتبر العرف في قيمة الرهن ، ولأن الدعاوى لا تقوى بالتعارف وظهور الحال ، بدليل أن دعوى العدل التقي على الفاسق الغوي في الشيء غير مقبول ، وإن كان الظاهر في التعارف صدق المدعي فيها ، ودعوى العطار على الدباغ عطرا لا يوجب قبول قول العطار فيه ، وإن كان العرف يقتضيه ، كذلك الرهن لا تعتبر قيمته في قبول قول المرتهن ، وإن جاز أن يكون العرف معه ، ولأن العرف في الرهن يختلف ، فمن الناس من يرهن ما فيه وفاء على الحق ، ومنهم من يرهن ما فيه نقصان عن الحق ، فلم يجز أن يكون العرف مع اختلافه معتبرا .

                                                                                                                                            فصل : وأما القسم الثالث وهو اختلافهما في صفة الحق فصورته أن يقول المرتهن : رهنتني عبدك سالما في ألف حالة ، ويقول الراهن رهنتك في ألف مؤجلة فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يتفقا على أن للمرتهن ألفا حالة وأن له ألفا مؤجلة ، ثم يختلفان ، فيقول المرتهن رهنتني سالما في الألف الحالة ، ويقول الراهن : رهنتك في الألف المؤجلة ، فالقول قول الراهن مع يمينه ، بالله ما رهنه سالما في الألف الحالة ، ويخرج سالم من الرهن في المؤجلة والحالة ، أما الحالة فبيمين الراهن وأما المؤجلة فبإنكار المرتهن .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يتفقا على أنها ألف واحدة وأن سالما رهن بها ، ثم يختلفان في حلولها وتأجيلها ، فيقول المرتهن : هي حالة ، ويقول الراهن : بل هي مؤجلة ، ففيها قولان :

                                                                                                                                            [ ص: 194 ] أحدهما : أن القول قول المرتهن ، بالله أن الألف حالة ، ويصير سالم رهنا في ألف حالة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن القول قول الراهن : بالله أن الألف مؤجلة ، ويصير سالم رهنا في ألف مؤجلة ، وهذان القولان مبنيان على اختلاف قولي الشافعي فيمن أقر بدين مؤجل ، هل يقبل إقراره في الأجل أم لا ؟ فهذا حكم اختلافهما في الحق .

                                                                                                                                            فصل : فأما اختلافهما في الرهن فعلى ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يختلفا في أصله .

                                                                                                                                            والثاني : أن يختلفا في قدره .

                                                                                                                                            والثالث : أن يختلفا في صفته وعينه ، فأما القسم الأول ، وهو اختلافهما في أصل الرهن ، فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يختلفا في أصل الرهن بعد استقرار الحق .

                                                                                                                                            والثاني : أن يختلفا في أصل الرهن قبل استقرار الحق ، فإن كان اختلافهما في أصل الرهن بعد استقرار الحق فصورته أن يقول صاحب الحق : رهنتني عبدك سالما بالألف التي لي عليك ، فيقول الذي عليه الحق : ما رهنتك سالما ولا غيره ، فالقول قوله : بالله ما رهنه سالما ، ويصير الألف بلا رهن ، وإن كان اختلافهما في أصل الرهن قبل استقرار الحق فصورته أن يقول صاحب الحق : بعتك داري بألف على أن ترهنني بها عبدك سالما ، ويقول المشتري : بعتني دارك بألف على أن لا رهن بها ، فيتحالفان لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه ، فالمشتري يدعي شراء الدار بلا رهن ، والبائع يدعي على المشتري عقد الرهن ، فوجب أن يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ، فيبدأ المشتري باليمين لا يختلف فيه المذهب ، لأن يمينه لإنكار عقد الرهن ، ويمين البائع لفسخ البيع لعدم الرهن فيقول المشتري : والله لقد اشتريتها بلا رهن ، ثم يحلف البائع ، بالله لقد بعتها برهن ، فإذا حلفا جميعا خرج العبد من الرهن ولم يلزم البائع إمضاء البيع بلا رهن ، وكان بالخيار في البيع بين إمضائه بلا رهن وبين فسخه ، وإن حلف المشتري دون البائع خرج العبد من الرهن ، ولم يكن للبائع فسخ البيع ، وإن حلف البائع دون المشتري ، كان العبد رهنا بالثمن ، ولم يكن للبائع فسخ البيع ، والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : وأما القسم الثاني وهو اختلافهما في قدر الرهن فعلى ضربين أيضا :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون اختلافهما بعد استقرار الحق وصورته أن يقول المرتهن : رهنتني [ ص: 195 ] عبديك سالما وغانما في الألف التي لي عليك ، ويقول الراهن رهنتك عبدي سالما وحده في الألف التي لك علي ، فالقول قول الراهن مع يمينه ، ويكون سالم وحده رهنا في الألف .

                                                                                                                                            وقال مالك : إن كانت قيمة سالم وحده ألفا فالقول قول الراهن ، وإن كانت قيمة سالم وغانم معا ألفا ، فالقول قول المرتهن ويكون سالم وغانم رهنا ، وقد مضت الدلالة عليه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون اختلافهما قبل استقرار الحق ، وصورته أن يقول المرتهن : بعتك داري بألف على أن ترهنني سالما وغانما ، ويقول الراهن : ابتعت دارك بألف على أن أرهنك سالما دون غانم ، فإنهما يتحالفان ثم يكون البائع في البيع بالخيار بين إمضائه برهن سالم وحده وبين فسخه .

                                                                                                                                            فصل : وأما القسم الثالث : وهو اختلافهما في صفة الرهن وعينه ، فعلى ضربين أيضا : أحدهما : أن يكون بعد استقرار الحق ، وصورته أن يقول المرتهن : رهنتني عبدك سالما في الألف التي لي عليك ، ويقول الراهن : رهنتك عبدي غانما في الألف التي لك علي ، فالقول قول الراهن مع يمينه ، بالله ما رهنه سالما ، فإذا حلف خرج سالم بيمين الراهن ، ولم يكن غانم في الرهن لإنكار المرتهن .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون قبل استقرار الحق ، وصورته أن يقول المرتهن : بعتك داري بألف على أن ترهنني عبدك سالما ، ويقول الراهن : ابتعت دارك بألف على أن أرهنك عبدي غانما ، فإنهما يتحالفان فإذا حلفا لم يكن سالم ولا غانم رهنا ، والمرتهن بالخيار بين إمضاء البيع بلا رهن وبين فسخه ، فهذا حكم اختلافهما في الرهن ، فإن اختلفا في الحق والرهن معا كان اختلافهما في الحق على ما وصفنا وفي الرهن على ما بينا ، وهذه مقدمة أوضحنا بها شرح المذهب لنبني عليها كلام المزني واختلاف أصحابنا في تأويله .

                                                                                                                                            فصل : قال المزني : وجملة قوله في اختلاف الراهن والمرتهن أن القول قول الراهن في الحق والقول قول المرتهن في الرهن ، أما قوله إن القول قول الراهن في الحق فصحيح مطرد ، لأن المرتهن لو قال : الحق ألف ، وقال الراهن الحق خمسمائة ، كان القول قول الراهن في الحق أنه خمسمائة .

                                                                                                                                            وأما قوله : إن القول قول المرتهن في الرهن فلا يمكن حمله على ظاهره : لأن المرتهن لو ادعى في الحق رهنا وأنكره الراهن كان القول قول الراهن ، ولكن اختلف أصحابنا في تأويل مراده على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : أن مراده به إذا اختلفا في الرهن بعد تلفه ، فقال الراهن : تلف الرهن بتعديك [ ص: 196 ] أيها المرتهن ، وقال المرتهن : تلف بغير تعد ، فالقول قول المرتهن في الرهن مع يمينه بالله أنه تلف بغير تعد .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : مراد المزني به إذا اختلفا بعد تلف الرهن بالتعدي في قدر قيمته ، فقال الراهن : قيمته ألف وقال المرتهن قيمته مائة ، فالقول قول المرتهن في الرهن مع يمينه ، بالله أن قيمته مائة .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : هو أصح المذاهب ، أن مراده إذا اختلفا في البيع ، فقال الراهن : ابتعته بلا رهن ، وقال المرتهن : ما بعتك إلا برهن ، فالقول قول الراهن في الحق أنه لزمه بغير رهن ، والقول قول المرتهن في الرهن أنه وثيقة في الحق .

                                                                                                                                            ألا تراه قال بعده : ويحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ، وهما لا يتحالفان إلا في مسألة البيع ، فأما في تلفه بتعد أو غير تعد فإنما يحلف أحدهما ، فأما قول المزني فيما يشبه ولا يشبه ، فإنما أراد به الرد على مالك فيما ذكره من اعتبار العادة من قيمة الرهن وقد ذكرناه ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية