الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - التشبيه والمثل:

      يعد التصوير وسيلة من وسائل الدلالة البليغة، التي تتمكن في النفس ويكون لها أثر عميق في الإبلاغ والإثارة. والبيان النبوي الكريم يتخذ هذه الوسيلة الطبيعية الفطرية لمخاطبة النفس [ ص: 119 ] البشرية المؤمنة، ويصيب في استعمالها كل الإصابة. وهي أدوات بليغة لا تراد لذاتها ولكن لما وراءها من مقاصد دلالية ومعان ينبغي تبليغها؛ فجاءت صيغ الأحاديث وتراكيبها محكمة البناء، منتقاة أدوات التصوير، مناسبة لما في المعاني من عمق وغنى، وتركيز وجمع، وتناسق وتسلسل، وهو ما دعاه الباحثون بالاستقصاء: وهو تتبع المعاني والأحكام الممكنة أو المتصورة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة... ) [1] ، وقوله: ( لا تدخلوا الجنة حتى [ ص: 120 ] تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا... ) [2] ؛ فقد ركبت الألفاظ اليسيرة بهذا التناسق والتسلسل تركيبا تقتضيه طبيعة المعنى، حتى إن السامع للحـديث إذا وعاه تركب المعنى في نفسه مثلما تركب في اللفظ، وتمثله كما بناه قائلـه، وما ذلك إلا لأن صـورة النص الحـديثي لا تعني مجرد التشبيه أو الاستعارة أو المجاز، ولكنها تعني كل عناصر الشكل، بحيث توضع بإزاء المضمون متحدة معه اتحادا لا يمكن معه الفصل بينهما [3] ، وحاضرة في مناحي التفكير والحياة اليومية، وغير مقتصرة على اللغة الفنية [4] .

      إن صورة النص الحديثي الفنية، تقوم على مجموع الأدوات والعناصر التي يبنى منها شكل النص وما فيه من قيم معنوية وخطرات نفسية، تربط بين الحديث وسامعه، وهي صورة متفردة تمتاز عن صورة الأدب الجاهلي، لأنها تطوع اللغة لأصناف من التعبير عما لا يكاد ينحصر من المواقف والمشاعر والمحاورات. وقد امتازت صورة الحديث الفنية، بما اعتمدت عليه من وسائل في التعبير والتصوير، منها ما كان معروفا لدى العرب في أدبهم، [ ص: 121 ] كالتشبيه والاستعارة والكناية، ومنها ما لم يكن واضحا في أدبهم كالوصف والقصة والتشخيص والموازنة والإشارة [5] ... أما الرمز فلم يعدل الحديث النبوي عن الإفصاح والإعراب والبيان إلى الرمز؛ لأن الرمز ملجأ المتستر، وليست الكناية شبيهة بالرمز، ولا المجاز شبيها بالرمز، فالرمز مستنكف منه؛ لأن للعربية شجاعة صادقة في تعبيرها وفي اشتقاقها وفي تكوين أحرفها [6] .

      لقد قدمت المعاني في هيئة من الصور الموحية، القريبة المأخذ، المستمدة من حياة الناس. والمعاني، إذا نيلت من الجهة التي تميل إليها النفس، كان نيلها لها أحلى وبالميزة أولى، وكان موقعه منها ألطف وأدق.

      ومن أدوات التصوير المستعملة بكثرة، في الحديث النبوي التشبيه؛ والمعروف أن التشبيه لا يؤتى به لإقامة علاقة بين المشبه والمشبه به، بل يؤتى به للإيضاح والبيان، مع الإيجاز والاختصار [7] ، ولاستمالة السامع إلى المعنى والتأثير في نفسه، ولذلك كان التشبيه وسيلة تصويرية مؤثرة في المعنى وعاملة على تجليته وتقويته. وقد بين ذلك شيخ البلاغة عبد القاهر الجرجاني في تفريقه بين المعنى البسيط الذي يساق من غير تصوير، وبين المعنى مسلوكا به [ ص: 122 ] مسلك التشبيه: "وإن أردت اعتبار ذلك في الفن الذي هو أكرم وأشرف، فقابل بين أن تقول: "إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره"، وتقتصر عليه، وبين أن تذكر المثل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه ) ويروى ( مثل الفتيلة التي تضيء للناس وتحرق نفسها ) [8] ..." [9] .

      وقد عرف التشبيه بقوله: "اعلم أن الشيئين إذا شبه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين: أحدهما أن يكون من جهة أمر لا يحتاج فيه إلى تأول، والآخر أن يكون الشبه محصلا بضرب من التأول، فمثال الأول تشبيه الشيء بالشيء من جهة الصورة والشكل... والهيئة...، وكذلك كل تشبيه جمع بـين شيئين فيمـا يدخـل تحت الحواس... فالشبه في هذا كله لا يجري فيه التأول ولا يفتقر إليه في تحصيله... ومثال الثاني، وهو الشبه الذي يحصل بضرب من التأول، كقولك: "هذه حجة كالشمس في الظهور"... إلا أنك تعلم أن هذا التشبيه لا يتم لك إلا بتأول" [10] . [ ص: 123 ]

      أما الحديث السابق، الذي ساقه عبد القاهر في معرض التفريق بين المعنى البسيط والمعنى التمثيلي، فإنه يدخل في باب التشبيه التمثيلي، ومفاده أن العالم بالخير "أو معلمه، بحسب روايات أخرى" غير العامل به، والسراج يجتمعان في وجه واحد، هو نفع الغير وعدم الانتفاع، وهي صورة تقرب إلى النفوس معنى ذلك الذي يحرص على نفع غيره ويهمل ذاته.

      وعن أبي هريرة قال: ( ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما. فجعل المتصدق، كلما تصدق بصدقة، انبسطت عنه حتى تغشي أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانها . قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا توسع ) [11] .

      يبين لنا الحديث بالتشبيه والتمثيل كيف أن البخل مركوز في طباع البشر ومن أشد خصال النفس صلابة وقوة واستحكاما، أما الإنفاق والكرم فإنه يبسط النفس ويلينها وينمي المال؛ لأن نماء المال بالإنفاق وكساده بالبخل والإمساك. وهو بيان بالتشبيه والتصوير: فالبخيل رجل كسائر الرجال، ولكنه متلبس بصفة البخل، والمتصدق رجل متلبس بالكرم وحب الإنفاق. ومثلهما فيما تلبسا به كمثل من عليه جبة من حديد، أحدهما [ ص: 124 ] جمدت عليه جبته ولازمته، والثاني أخذت تنحسر عنه كلما تصدق بصدقة، وكأن هذا الإنفاق هو مفتاح الانحسار وسر الانفراج.

      ومزية هذا التصوير أنه قد جرد هذه الصفة المذمومة عن كل لبوس قد يعتذر به الناس مثل لبوس حسن التدبير وخشية الإملاق... وأظهر حقيقة الشح عارية أمام المخاطبين، وكشف أضرارها، وبين في مقابل ذلك حسنات التصدق وعواقبه الحميدة على صاحبه.

      وعن أبي عبد الله النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) [12] .

      يبين صدر الحديث أن الحلال المحض بين لا شبهة فيه، وأن الحرام المحض بين لا شبهة فيه أيضا، وهو كل شيء أمروا به أو أحل لهم، وكل [ ص: 125 ] شيء حرم عليهم، ونهوا عنه، أو كره لهم [13] . ولكن بين الحلال المحض والحرام المحض ما يشتبه على الناس أمره، ولا يتبين أمن الحلال هو أم من الحرام إلا لذوي العلم، مثل بعض ما اختلف في حله أو حرمته، إما من الأطعمة أو الأشربة أو الألبسة، وإما من المكاسب المختلف فيها. وأسباب الاختلاف بين العلماء كثيرة، ولكنهم لا يشتبه على خاصتهم والراسخين منهم أحكام الأمور، ولهذا قال في المتشابهات: ( لا يعلمهن كثير من الناس ) فمن ترك هذه المشتبهات التي يخفى عليه حكمها ويختلط فيها الحلال بالحرام، أو هي منزلة بين الحلال والحرام، بقصد براءة الدين والعرض عن النقص، وفي رواية أخـرى: ( فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك ) [14] ، وفي رواية عن النعمان بن بشير: ( ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ) [15] . [ ص: 126 ]

      وبعد ذلك أورد الحديث صورة تشبيهية، شبه فيها الواقع في الشبهات المقترب من الحرام المحض بمن يرعى حول حمى محرم، ولله سبحانه حمى، وحماه المحرمات والحدود، وكل من رعى قرب الحمى فإنه جدير بأن يدخله ويرتع فيه، مهما تكن ذريعته التي يتذرع بها؛ لأن الحديث يسد باب الذرائع، فقد ابتعد هذا الراعي بغنمه عن وسط المرعى، واقترب من الحدود التي تفصله عن مرعى (الغير)، وتوشك غنمه بين الفينة والأخرى أن تقتحم الحمى المجاور، ومثله الذي يبتعد عن بحبوحة الحلال المحض، ويقترب من الحدود التي تفصله عن الحرام. وهـذا تشبيه يمثل فيه الحديث لمعنى "الوقوع في الشبهة" بمثال "حدود المرعى" لتقريب هذا المعنى إلى الأذهان وجعله ماثلا لكل من يهم بفعل أمر لا يعلم حكم الله فيه، أو حكمه مختلـف فيه بين العلمـاء. فكـل هذا تشبيه وتمثيل، ومعناه ترك الإنسان ما يريبه إلى ما لا يريبه، وفي رواية: ( فمن اتقى الشبهات استترن منه، وأعرضن عنه... ) [16] . وهذا مثل في وضوح الحق وظهور معالم الإسلام لمن أراد قصدها، وعدل عن طريق الشبه والريب مفارقا لها.

      وختم الحديث ببيان أن إتيان الحلال المحض واجتناب الحرام المحض واتقاء الشبهات أمور منوطة بصلاح القلوب وسلامتها، أي صلاح حركات الجوارح منوط بالقلب السليم. [ ص: 127 ]

      وتشبيه المعنى المذكور بالمثال المذكور بيان موضح يختصر على المتكلم الحاجة إلى الشرح والتفصيل، ويهجم بصورة المعنى على ذهن المخاطب، دفعة واحدة. فهو من الإيجاز المحمود ومن جوامع الكلم، من جهة بلاغة التشبيه والإيجاز، لما يحتمله من الأحكام والمعاني. وهو من جوامع الكلم، لما يحتمله من الأحكام والمعاني التي تدخل تحت مفهوم الشبهة ويصدق عليها معناها؛ فقد فصل العلماء في بيان معاني الحلال البين، والحرام البين، والشبهات، واستخرجوا من ذلك أصولا وقواعد شتى تتعلق بالأحكام، وقد سبق ذكر ما روي عن الأئمة من أن أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث، منها حديث ( الحلال بين والحرام بين... ) [17] ، فتبين من ذلك أن هذا الحديث من شواهد البلاغة النصية العالية وجوامع الكلم، بما هو أصل كبير من أصول الدين .

      ويدخل في التشبيه، تشبيه المحسوس بالمحسوس، مثلما في حديث: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) [18] ، وتشبيه المعقول بالمحسوس، كما في حديث أبي سعيد الخدري، من خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ؟ فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض ) [19] . [ ص: 128 ]

      وأما تشبيـه التراكيب، فيرد في الغـالب على هيئة تشبيه تمثيلي [20] ، أو تشبيه صورة متعددة الأجزاء بصورة متعددة الأجزاء. وأغلب الأحاديث التي وردت فيها الأمثال من هذا الباب [21] .

      والمقصود بالأمثال في الحديث النبوي التشبيه التمثيلي الذي يضرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم المثل بالمحسـوس المعروف لبيان الخفي الغـائب عن الحس، قال أبو الحسن بن خلاد الرامهرمزي في كتابه "أمثال الحديث" معرفا بموضوع الكتـاب: "هـذا ذكر الأمثال المروية عن النبـي صلى الله عليه وسلم ، وهي على خلاف ما رويناه من كلامه المشاكل للأمثال المذكورة عن متقدمي العرب؛ فإن تلك مواقع الأفهام باللفظ الموجز المجل، وهذا بيان وشرح وتمثيل، يوافق أمثال التنزيل التي وعد الله عز وجل بها وأوعد، وحرم وأحل، ورجى وخوف، وقرع بها المشركين، وجعلها موعظة وتذكيرا" [22] . [ ص: 129 ]

      فهو لا يقصد بالأمثال الأحاديث القصار التي جرت مجرى الأمثال، وسارت بها الركبان كحديث عبد الله بن عمرو: ( الحرب خدعة ) وحديث عبد الله بن عباس: ( ليس الخبر كالمعاينة ) وكل ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار مثلا" .

      ولكن المراد تشبيه الأحوال العامة لا الأفراد؛ لأن تشبيه الأفراد يعتمد على أدوات التشبيه. ولكن الحافظ أبا الشيخ الأصبهاني (ت.369)، لم يميز في دلالة الأمثال بين ما جرى مجرى الأمثال من جوامع الكلم القصار، وبين الأحاديث التي تضمنت تمثيل الهيئات والأحوال؛ فقد جمع النوعين معا تحت عنوان الكتاب المذكور منطلقا فيه من قول الصحابي عبد الله بن عمرو: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل" [23] .

      والغاية من ضرب المثل أن يكون المعنى أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه [24] . ويعد البلاغيون التمثيل أو المماثلة من ضروب الاستعارة؛ وذلك أن تمثيل شيء بشيء فيه إشارة، ومعنى التمثيل اختصار قولك: "مثل كذا وكذا" والتمثيل - مثل الاستعارة - من التشبيه، إلا أنهما بغير أداته [25] . فالتشبيه [ ص: 130 ] التمثيلي هو الذي يكون وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد، وله أثر بليغ في النفس؛ لأنه إذا وقع في صدر الكلام، نبه النفس على تلقي المعنى، وبعثه إليها بوضوح معضود بالدليل المقنع. [26]

      ومن الأحاديث التي تدخل في هذا الباب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، ما تقولون، أيبقي ذلك من درنه شيئا؟ قالوا: لا يبقي ذلك من درنه شيئا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا ) [27] .

      في الحديث تمثيل للمؤمن الذي يواظب على الصلوات الخمس بالمؤمن الذي يغتسل خمس مرات في نهر بباب بيته. والغرض من ضرب المثال بيان فضيلة المواظبة على الصلوات، وهي أنها تمحو الخطايا كما يمحو تكرار [ ص: 131 ] الاغتسال الدرن. وفي التمثيل ترغيب بليغ في الإقبال على تكرار الفعل، وهو ترغيب في غسل الروح من درن بقاؤه يؤذي وزواله ينشط، من مغتسل غير بعيد. وفي التركيب افتراض بالاستفهام يراد منه تقرير شيء يطلب من المخاطب جوابه لتبنى عليه النتيجة المقررة. وفيه تنكير للنهر، وهو نهر غير معروف عندهم، يراد منه تشويق السامع في تصور عظمة هذا النهر وعذوبته. وفيه الباء التي تفيد الظرفية، ولعل الأبلغ في الدلالة أنها تفيد الإلصاق، لتصوير مدى القرب وتحريك الهمة للاغتسال منه وتهوين المشقة. وفيه الفعل المضارع الذي يفيد التجدد في كل يوم خمس مرات، ثم يتصاعد العدد بمرور الأيام. وفيه الفاء الفصيحة التي تفيد ربط النتيجة المقررة - المراد إثباتها وإبلاغها - عن فضيلة تكرار الصلوات الخمس، وكأنها تربط جوابا بشرط مقدر قبلها (إن يمح النهر الدرن فذلك مثل الصلوات...).

      ومما يدخل في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ، في رواية عن أبي هريرة: ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة [28] من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين )

      [29] . [ ص: 132 ]

      فهذا مثل يضربه النبي صلى الله عليه وسلم على نبوته وختمه للنبوات وبه تتم حجة الله على خلقه، وقد مثل بالبنيان الـذي يشد بعضه بعضا، وهو ناقص الكمال إذا نقص بعضه، فأكمل الله بمحمد، صلى الله عليه وسلم دينه وختم به النبوات والرسالات.

      قال أبو الحسن بن خلاد الرامهرمزي: "هذا مثل نبوته صلى الله عليه وسلم ، وأنه خاتم الأنبياء، وبه تتم حجة الله عز وجل على خلقه. ومثل ذلك بالبنيان الذي يشد بعضه بعضا وهو ناقص الكمال بنقصان بعضه، فأكمل الله به دينه، وختم به وحيه، والعرب تمثل ما يبالغون فيه من الوثاقة والأصالة وعقدة المكارم والمفاخر وأشباه ذلك بالبنيان؛ قال الله عز وجل: ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) (الصف:4). يعني لا يزول ولا يتخلخل. وأخبر أنه بنى السماء فرفع سمكها وهو بناء القدرة، لا أن ثم شيئا من آلة. قال عبدة بن الطبيب يذكر قيس ابن عاصم:


      فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنـيان قـوم تهدما" [30] .



      وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

      ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [31] . [ ص: 133 ]

      وفي رواية أخرى عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

      ( مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم والذي جعل الله بينهم، مثل الجسد، إذا اشتكى شيء منه، تداعى سائره بالسهر والحمى ) [32] .

      قال أبو الحسن الرامهرمزي: "قال أبو محمد: التواد والتحاب والتراحم والتواصل مصادر، من قولك: تحاب الرجلان وتوادا وتواصلا وتراحما و... يقع فعل المحبة والمودة والوصلة والرحمة من أحدهما مثل ما يقع من الآخر، وشبه المؤمنين في هذه الخصال، وإن تغايرت أجسامهم وتباينت، بالجسد الواحد الذي يألم جميعه بما يألم بعضه، فكذلك المؤمنون متكافئون في السراء والضراء، ومشتركون في الشدة والرخاء" [33] .

      لقد مثل الحديث لحقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين الذين يجمعهم ويشد بعضهم ببعض في السراء والضراء، ببناء الجسد الواحد الذي يمسك بعضه بعضا، وقرر بالتمثيل أن كل فرد من أفراد المجتمع المؤمن كالعضو من أعضاء الجسد، إذا أصيب العضو الواحد منه بالألم سرى الألم في باقي الأعضاء بحكم الرابط الذي يصل بعضهم ببعض، ومثل ذلك مجتمع المؤمنين إذا ألم أحدهم أحس بألمه باقي المؤمنين بحكم رابطة الإيمان التي تصل بينهم، وتنقل مشاعر كل فرد إلى غيره، فرابطة الإيمان المعنوية تشبه رابطة الجسم المادية، وهذا أنموذج للمجتمع السليم، وهو بخير ما دامت الاستجابة [ ص: 134 ] قائمة فيه، وما دام بعضه يحس ببعض. وتسقـط عنه السـلامة والخيرية إذا تعطلت حواسه وفقد الاستجابة [34] .

      ومما يزيد في تأكيد معنى التماسك بين الممثل له، وهو مجتمع المؤمنين والممثل به، وهو الجسد، أن الممثل به ورد في صيغة المفرد الذي لا يتحلل إلى أفراد، فيحتفظ بصفات الجسدية، ثم وصف بصفة الواحد إثباتا للوحدة والتماسك وتأكيدا لها، ثم تجانس فعلا الشرط والجزاء في المضي؛ للدلالة على سرعة الاستجابة عند وجود الداعي، ثم اختير لفظ "تداعى" للدلالة على أن الأعضاء يدعو بعضها بعضا إلى الاستجابة والإنقاذ من الهلاك، وكأن خطر الهلاك محدق بكل الأعضاء، لا بالعضو المصاب فقط.

      وروي عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

      ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف، لدينه ) [35] . [ ص: 135 ]

      ينص الحديث على ذم الجاه والمال، ويحذر من شرهما لأنهما مفسدة للدين، ويضرب المثال على إفسادهما له بإفساد ذئبين جائعين أطلقا على غنم. ويترك السامع أمام هذه الصورة ليتخيل مشهدهما وهما يرسلان على قطيع الغنم. إنه مشهد الافتراس الشرس الذي لا هوادة فيه ولا رحمة؛ لأن نهم الجوع يحفز الطاقات كلها على الانقضاض على الفريسة، بل جيء بالنفي (ما) لإثبات المساواة بين الممثل له والممثل به وتأكيدها، وجيء بالحرص لتصوير الحال الحقيقية التي تصور الإرادة المستمرة في النفس، ثم بحرف الجر الزائد (الباء) الذي يفيد التأكيد، ثم وصف الذئبان بصفة مؤكدة وهي (جائعان) لزيادة تهويل الخطر، وهو أن الفتك سيكون أشد وأعظم.

      فاجتمع في هذا الحديث على قصره ووجازة ألفاظه وتنوع رواياته [36] مؤكدات تصور مشهد الفتك الرهيب، وذلك لكي يبنى عليه تمثيل يفيد إفساد الحرص على الدنيا للدين. فالحرص على المال ذئب جائع، والحرص على الجاه ذئب آخر جائع. ودين المرء فريسة أمام الحرصين، والحرص معنى خفي لا يكاد يتأتى للمرء استشعار خطره؛ فإذا بالحديث يوقظه من غفلته، وينبهه على الخطر المحدق به من جهته؛ وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها، وهذه الدواب التي تقع في النار تقع فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم ) [37] . [ ص: 136 ]

      وعن عمرو بن ميمون قال: سمعت عبد الله بن مسعـود يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المسلمين يوم القيامة في الكفار كمثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود أو الشعرة السوداء في الثور الأبيض ) [38] .

      وعن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) [39] .

      وعن أنس عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر ) [40] . [ ص: 137 ]

      هذه الأحاديث وأمثالها تعتمد في بلاغتها على ضرب الأمثال، وتشبيه الهيئات والأحوال الحاصلة بين الممثل به والممثل له، للحصول على صورة مجسمة، تنطوي على دقائق وتفاصيل أخرى تزيد المماثلة قوة وتأكيدا.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية