الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - دلالة الاستعارة في البيان النبوي:

      "ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها، أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ" (أسرار البلاغة:33). [ ص: 143 ]

      عرف القاضي الجرجاني الاستعارة بأنها ما اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصلي، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها، وملاكها بقرب التشبيه، ومناسبة المستعار للمستعار له، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة [1] . وذكر ابن وكيع أن خير الاستعارة ما بعد، وعلم في أول وهلة أنه مستعار، فلم يدخله لبس [2] . وعرفها أبو الحسن الرماني بأنها استعمال العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة [3] . أما عبد القاهر فقد عرف الاستعارة المفيدة بأنها ما نقل من مسماه الأصلي إلى شيء آخر ثابت معلوم؛ فتجريه عليه وتجعله متناولا له تناول الصفة مثلا للموصوف [4] .

      وأما علاقة الاستعارة بالإيجاز وجمع الكلم، فقد قال فيها عبد القاهر: "ومن خصائصـها التي تذكر بـها - وهي عنوان مناقبها- أنها تعطيك الكثير من المعـاني باليسير من اللفظ؛ حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر" [5] .

      والسر في الاستعـارة في كـلام العرب الاتسـاع في الكلام اقتدارا لا اضطرارا؛ فقد استعار العرب مجازا واتساعا، وإن كان للشيء عندهم أسماء كثيرة، وليس من ضيق اللفظ عليهم، ولكنه من الرغبة في الاختصار [6] . [ ص: 144 ]

      ومما ورد فيه استعارة، قوله تعالى: ( ولما سكت عن موسى الغضب ) (الأعراف:154)، وقوله: ( إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور * تكاد تميز من الغيظ ) (الملك:7-8)، فسكوت الغضب والشهيق والغيظ استعارات .

      ويدخل في الباب حـديث السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله [7] ، وفيه استعارة مكنية أيضا، في قوله: ( ورجل تصدق بصدقة فأخفـاها حتـى لا تعـلم شماله ما تنفق يمينه ) ، وهي ( لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) فقد شبه اليدين برجلين، وحذف المشبه به وهو الرجل الأول، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو اليد.

      وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ) [8] .

      لقد صور الحديث بأسلوبه البليغ الهول الذي سيحل بالناس قرب قيام الساعة، وهو هول البلايا التي ستفتنهم في دينهم ودنياهم. وهذه الفتن تشبه في تلاحقها واسترسالها قطع الليل المظلم وأجزاءه. [ ص: 145 ]

      ومن مخـاطر هذه الفـتن أن الإنسان ينقلب بين عشية وضحاها من الإيمان إلى الكفر، ثم يعود فينقـلب من الكفر إلى الإيمـان، وينتكس على أعقابه كلما أصابته داهية أو فتنته الدنيا بمباهجها: ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) (البقرة:16).

      وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن بين يدي الساعة ) استعارة مكنية لأن فيها تشبيه الساعة بالرجل ذي اليدين، وحذف المشبه به، والرمز إليه بشيء من لوازمه وهو اليد؛ فقد استعيرت اليد من الإنسـان وأضيفت إلى الساعة، والجامع بين المستعـار والمستعار له هو القرب والملازمة، فالفتن ملازمة لحلول الساعة واقترابها، واليد ملازمة للإنسان. وقد جاءت هذه الاستعارة مؤكدة بإن لتأكيد هذه الملازمة وبيان العلامة التي تصاحب اقتراب الساعة. ويزداد جمـال التعبير في الحديث النبوي ببعض القيم البديعية التي تحسن اللفظ، مثل الطباق بين الفعلين "يصبح" و"يمسي"، والطباق بين الاسمين "مؤمنا" و"كافرا"، ويزيد الطبـاق معنى الحديث بيانا وإيضاحا، وتركيزا وإيجـازا؛ إذ يقرب صورة التسـارع والتتابع الـتي تطرأ على أحوال الناس بسبب الفتن.

      وهكذا فإن العبارات التي وردت بها استعارات في الأحاديث السالفة اختصر فيها الكلام اختصارا، واجتمعت فيها معان كثيرة بألفاظ قصار. [ ص: 146 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية