الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - أسلوب الافتتاحات والمبادئ:

      يعد مفتتح الكلام البليغ ركنا من أركان البلاغة، وحقيقته آيلة إلى أنه "ينبغي لكل من تصدى لمقصد من المقاصد، وأراد شرحه بكلام، أن يكون مفتتح كلامه ملائما لذلك المقصد ودالا عليه" [1] .

      ومن بلاغة الافتتاح والمبدأ في البيان النبوي الكريم ما رواه البيهقي في سننه الكبرى، قال: "حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك أنبأ عبد الله ابن جعفر ثنا يونس بن حبيب ثنا أبو داود الطيالسي ثنا شعبة ثنا أبو إسحاق قال: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يحدث عن أبيه قال : علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: ( الحمد لله -أو إن الحمد لله- نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. ثم تقرأ ثلاث آيات من القرآن: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) (آل عمران :102)، ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (النساء:1)، و ( يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ) (الأحزاب:70-71)، ثم تتكلم بحاجتك ) [2] .

      فهذه الكلمات الجوامع للخير، كان يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ، عند مفتتح الأمور، إذا أراد حاجة من الحـوائج من زواج أو موعظة أو فصل في قضية [ ص: 185 ] أو غير ذلك من سائر الحاجات. وقد بنى مقاله على افتتاح مناسب لمقامات عدة، وصار هذا الاختيار ملائما للمطلوب من جميع الأفعال المطلوبة؛ فافتتح بالتعريف والإقرار باستحقاق الحمد والثناء لله في كل الأحوال، من غير اختصاص وقت دون وقت. ثم أردفه بتجديد الحمد في مستقبل الزمان وحاله؛ فبدأ لفظ الحمد بالاسم؛ ليدل به على الثبوت والاستقرار. ثم أردفه بالحمد بالفعل المضارع؛ وذلك ليدل به على التجدد والاستمرار. ثم عقب بذكر الاستعانة لما كان محتاجا إليها في كل الأفعال، لأنها المدد والسند، واللطف الخفي من جهة المستعان به... ثم أردف بالاستعاذة من شرور النفس؛ لأن فيها الضرر الجسيم للنفوس، بما هي مطبوعة على أنها أمارة بالسوء في كل أحوالها. ثم عقب بالاستعاذة من السيئات؛ فإنها مغلاق للخير مفتاح للشر...

      "فمن أجل هذه المناسبة جعل هذا الدعاء ديباجة لكل مطلوب؛ لما اختص من الملاءمـة بما يذكر بعده" [3] ، وهو من الكلام الذي "لم يسبقه إليه عربي، لم يشاركه فيه عجمي، ولم يدع لأحد، مما صار مستعملا ومثلا سائرا" [4] .

      ومن بلاغة الاستهلال أيضا، افتتاحه صلى الله عليه وسلم في الدعاء لأبي سلمة عند موته؛ قالت أم سلمة: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة، وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: ( إن الروح إذا قبض تبعه البصر ) فضج ناس من أهله فقال: ( لا تدعوا على أنفسـكم إلا بخـير؛ فإن الملائـكة يؤمنون على ما تقولون ) ثم قال: ( اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، [ ص: 186 ] واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه ) [5] .

      وهذا شـاهد على مناسبة هذا الافتتاح للحالة التي حصل فيها، فافتتحه صلى الله عليه وسلم بذكر المهم الذي يفتقر إليه الميت المدعو له، من رفع الدرجة في الآخرة، ثم أردفه بذكر ما يؤثره هذا المدعو له من صلاح حال عقبه من بعده في الدنيا، ثم ختمه بالجمع بين الداعي والمدعو له.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية