الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      14 - أسلوب التلوين في دلالة الفعل على الزمن:

      في إطار بلاغة التنويع والتلوين في أسلوب النص القرآني، نجد القرآن الكريم يعتمد أحيانا أسلوب المغايرة والتلوين [1] في دلالة الفعل على الزمن الواحد، نحو قوله تعالى: ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) (الإسراء: 18-21)، ووجه التلوين ظاهر في الانتقال من صيغة مركبة للفعل الماضي (كان يريد) إلى صيغة مجردة منه (أراد). وفي الآيات أيضا [ ص: 83 ] تلوين للأسلوب بالانتقال من صيغة المتكلم (عجلنا-نشاء-نريد-جعلنا-نمد) إلى صيغة الغائب (عطاء ربك) ثم العودة إلى المتكلم ( فضلنا. ) وفيها أيضا تلوين للأسلوب بالانتقال من المشيئة إلى الإرادة وهما فعلان متغـايران ولكنهمـا متقاربان. ثم التلوين بيـن الجمـلة الفعلية ( عجلنا ) التي تفيـد الحـدوث والعبور، للتعبـير عن جزاء حب العاجلة، والجملة الاسمية ( فأولئك كان سعيهم مشكورا ) التي تفيد الثبوت أي ثبوت جزاء إرادة الآخرة.

      ومما يفيد التلوين في أسلوب الصيغ الزمنية والانتقال من زمن إلى آخر: الانتقال من الماضي إلى المضارع، نحو قوله تعالى: ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) (فاطر:9)، ففيه انتقال من المضي (أرسل) إلى الحال (فتثير) ثم عود إلى الزمن الماضي (فسقنا، فأحيينا)، وكأن الحال أو الاستقبال في الفعل (تثير) لقطة زمنية بين لقطتين ماضيتين، تدل على حكاية الحال، ففي تلك اللقطة التفات بلاغي فريد.

      جاء الفعل أرسل بلفظ الماضي لما أسند إلى الله تعالى؛ لأنه يفيد الثبوت والاستمرار، وما يفعله تعالى بقوله: كن، لا يبقى زمانا ولا جزء زمان، فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه، ولأنه فرغ من كل شيء، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة، ولما أسند الإثارة [ ص: 84 ] إلى الريح، وهي تؤلف في زمان، قال: ، ( فتثير ) وأسند ( أرسل ) إلى الغائب، وأسند ( فسقناه * وأحيينا ) ، إلى المتكلم.

      ومن التلوين الانتقال من اسم يقدر أنه معمول فعل مضمر، إلى اسم ليس كذلك؛ نحو قوله تعالى: ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) (هود:69) ؛ فانتقل من اسم منصوب (سلاما) إلى اسم مرفوع (سلام) لأن المنصوب إنما يكون على إرادة الفعل الناصب، أي سلمنا سلاما، وذلك يؤذن بحدوث التسليم منهم، أما سلام إبراهيم فإنه اسم مرتفع بالابتداء، فاقتضى الثبوت على الإطلاق، فسلام الخليل أبلغ من سلامهم، وكأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به [2] .

      14- الضمير ووظيفة الربط:

      من أدوات القرآن الكريـم الرابطة لأجزاء النص: الضمير ووظيفة الربط:

      من وظائف الضمير في اللغة العربية الاختصار، لأنه يقوم مقام الظاهر ويغني عن تكراره، ومن وظائفه الربط ووصل الجمل بعضها ببعض، ومن وظائفه أيضا الإحالة على سابق؛ وهي عوده على متقدم بما يغني عن ذكره وبما يربط آخر الكلام بأوله. [ ص: 85 ]

      هذا، ولا بد للضمير من مرجع يعود إليه، ويكون المرجع إما ملفوظا به سابقا مطابقا له، نحو قوله تعالى: ( ونادى نوح ابنه ) (هود:42)، ( وعصى آدم ربه فغوى ) (طه:121)،

      أو متضمنا له، نحو: ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة:8)، فإن الفعل ( اعدلوا ) يتضمن الاسم المرجع وهو "العدل"،

      أو دالا عليه بالالتزام نحو: ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) (القدر:1)؛ أي القـرآن، فـإن الإنزال يدل عليه التزاما،

      أو متأخرا لفظا لا رتبة نحو: ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) (طه:67)، ( ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) (القصص:78)،

      أو متأخرا دالا بالالتزام: ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) (الواقعة:83)، فقد أضمرت الروح لدلالة الحلقوم عليها.

      وقد يدل السياق على الاسم الذي يرجع إليه الضمير، فيضمر ثقة بفهم السامع وعلمه، نحو قوله تعالى: ( كل من عليها فان ) (الرحمن:26)،

      وقد يعود الضمير على لفظ المذكور دون معناه: ( والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ) (فاطر:11)؛ أي لا ينقص من عمر معمر آخر [3] . [ ص: 86 ]

      والأصل في الضمير عوده على أقرب مذكور، نحو: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) (الأنعام:112)، فلكي يعود الضمير على أقرب مذكور في الآية أخر المفعول الأول وهو الشياطين، ليعود الضمير عليه لقربه، أما إن كان مرجع الضمير هو المضاف عاد عليه الضمير وإن حال بينهما المضاف إليه، نحو قوله تعالى: ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ) (النحل:18).

      والأصـل في الضمـائر أيضـا توافقـها في المرجع حذر التشتيت، نحو قولـه تعـالى: ( ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) (طه:37-39)، فالضمائر كلها راجعة إلى موسى، ولا يصح أن يرجع بعضهـا إلى موسـى وبعضها إلى التابوت لما في ذلك من هجنة التشتيت وتنافر النظم [4] .

      ومثل ذلك قوله تعالى: ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ) (الفتح:8-9)، فالضمـائر في ( ورسوله ) ، ( وتعزروه ) ، [ ص: 87 ] ( وتوقروه * وتسبحوه ) ، لله تعـالى، والمراد بتعزيره تعـزير دينه ورسـوله، "ومن فرق الضمائر فقد أبعد" [5] .

      وقد يأتي من الضمائر ما تختلف مراجعه، كما في قوله تعالى: ( قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) (الكهف:22)؛ فإن الضمير في الجار والمجرور ( فيهم ) لأصحـاب الكهف، والضمير في الجار والمجرور ( منهم ) لليهود [6] .

      ومن قواعد عود الضمير، أنه إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللفظ والمعنى، بدئ باللفظ ثم بالمعنى، نحو قوله تعالى: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) (البقرة:8)؛ أفرد أولا ( من يقول ) ، باعتبار اللفظ، ثم جمع ( وما هم بمؤمنين ) باعتبار معنى الكلام، ومثله: ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) (الأنعام:25)، ومثله: ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ) (محمد:16). ومثله: ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) (الزمر:33). [ ص: 88 ]

      ويبدو أن الحمل على اللفظ يكون أولا ثم يأتي بعده الحمل على المعنى، وهو أقوى، والجمع بين الجهتين يثبت لنا أن النص الواحد تترابط أجزاؤه لفظا ومعنى، أو يزاوج بين اللفظ والمعنى، فيبدأ بالحمل على اللفظ ثم يثنى بالحمل على المعنى.

      وقلما يبدأ بالحمل على المعنى ثم يثنى باللفظ؛ فقد ذهب بعض النحويين إلى أنه إذا حمل على معنى الجمع لا يجوز الرجوع إلى لفظ الواحـد، واعترض عليه بأنه ورد في القرآن الكريم ما يفيد الرجوع من المعنى إلى اللفظ [7] ، من ذلك قوله تعالى: ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ) (النساء:13)،

      وكذلك قوله تعالى: ( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ) (الطلاق:11)، فقد أفرد في ( ومن يطع الله ) ، ( ومن يؤمن ) وجمع في ( خالدين فيها ) ، فرجع بعد الجمع إلى الإفراد.

      وهذا التنويع في الحمل على اللفظ أو المعنى من بلاغة القرآن الكريم ومن مظاهر تماسك نصه وانسجامه. [ ص: 89 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية