الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - بلاغة المجاز في البيان النبوي:

      "المجاز" طريق القول ومأخذه، وهو مصدر "جزت" "مجازا"، وكثيرا ما تستعمل العرب المجاز وتعده من مفاخرها؛ فإنه دليل الفصاحة، وهو كثير في الكلام[1] . وسبيل "المجاز" الاتساع والتجوز، وهو أن يطلق اللفظ ولا يراد معناه، ولكن يراد معنى ما هو ردف له أو شبيه، أي هو أن يسمى الشيء باسم ما قاربه أو كان منه بسبب. ومجاوزة ظاهر المعنى إلى قريب منه يجعل المجاز أبلغ من الحقيقة؛ لأنه يبلغ بالقارئ الغاية في البيان. وقد ذكر البلاغيون للمجاز أنواعا كثيرة، بحسب جهة القوة في كشف المعنى وبيانه؛ فمنها "التمثيل" الذي يكون مجازا لأنه يأتي على حد الاستعارة [2] ، ومنها "المجاز الحكمي" [3] ... [ ص: 138 ]

      ولا يمكن تصور المجاز متحققا إلا في التركيب الصحيح المبني على قواعد النحو [4] ، والتجوز النحوي كثير في كلام العرب، وله أشكال كثيرة، فقد يكون في إسناد الفعل أو شبهه إلى ما ليس له، نحو قول العرب: "نهارك صائم، وليلك قائم"، أي أنت قائم في هذا وصائم في ذاك، كما قال الله عز وجل: ( بل مكر الليل والنهار ) (سبأ:33) والمعنى: بل مكركم في الليل والنهار. ومن أمثال العرب إذا طال عمر الرجل أن يقولوا: "لقد أكل الدهر عليه وشرب"، إنما يريدون أنه أكل هو وشرب دهرا طويلا، وقال الجعدي: أكل الدهر عليهم وشرب [5] .

      وقال جرير:


      لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمـت، وما ليل المـطي بنائم



      ويقولون: لا يرقد وساده، وإنما يريدون متوسد الوساد [6] .

      ويدخل المجاز أيضا في باب الإيجاز، وخاصة في الضرب المسمى بالاكتفاء؛ وهو الذي فيه حذف، للاستغناء عنه في ذلك الموضع؛ فيكون المجاز من هذا الوجه وسيلة من وسائل الجمع والإيجاز في الكلام، كقوله [ ص: 139 ] تعالى: ( واسأل القرية ) (يوسف:82)، وفي الشعر منه كثير؛ يحذفون بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب [7] .

      و مما ورد فيه مجاز: ( أحد جبل يحبنا ونحبه ) [8] ، قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد نظر إلى جبل أحد منصرفه من غزاة خيبر، وهو محمول على المجاز؛ لأن الجبل لا يصح أن يحب أو يحب، ولكن المراد أن أحدا جبل يحبنا أهله ونحب أهله، وأهله هم أهل المدينة من الأنصار، ويؤيد هذا المعـنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كلام طويل: ( ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ) [9] . وقال عن الأنصار أيضا، فيما رواه أنس بن مالك: ( آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار ) [10] . وروي عن البراء بن عازب: ( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق؛ فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله ) [11] ، وهو كلام قليل، موجز بليغ، محمول [ ص: 140 ] على المجاز [12] ؛ لأن الجبل يصدق فيه أن يحب الذي هو فيه أو الذي يقطن قريبا منه، وقد عدد لهم النبي صلى الله عليه وسلم دور الأنصار ومواقعهم، فهم الذين يصح فيهم أن يحبوا ويحبوا، ولا يصح على الجماد ما يصح على الإنسان من إرادة نفع أو تعظيم أو غير ذلك مما يستتبع المحبة. والمراد أن أحدا جبل يحبنا أهله، ونحب أهله. وأهله هم أهل المدينة من الأنصار.

      ومن المجاز أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عروة البارقي: ( الخيل معقود في نواصيها الخير، الأجر والمغنم، إلى يوم القيامة ) [13] .

      هذا الحديث محمول على المجاز، وتفسيره أن الخيل وسيلة لإدراك الخير ومطية لبلوغه، فكأنه معقود بنواصيها لشدة ملازمته لها، فهي خير المال [14] ، بها تجبى الغنائم ويقرب البعيد، وبطونها كنز بنتاجها، وظهورها حرز لراكبها، وحصن من العدو ومنجاة من المهالك، وفيه حث على ارتباطها في سبيل الله [15] . [ ص: 141 ]

      ومن المجـاز أيضا قولـه صلى الله عليه وسلم في الحـديث الـذي أورده ابن خزيمة في صحيحه، في: "باب ذكر ما كان الله عز وجـل فرق به بين نبيه صلى الله عليه وسلم وبين أمته في النوم من أن عينيه إذا نامتا لم يكن قلبه ينام، ففرق بينه وبينهم في إيجـاب الوضـوء من النوم على أمته دونه عليه السلام: ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) [16] .

      لقد افترق حكمه صلى الله عليه وسلم وحكم أمته فيه؛ لقوله إن عينيه تنامان ولا ينام قلبه، فلا يجب عليه الوضوء لأن الوضوء لا يجب إلا من نوم فيه استرخاء المفـاصل، وإذا لم ينـم قلبه لم تسترخ مفاصله؛ فقد روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ( العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ ) [17] ؛ فشبه يقظة العين بالوكاء [18] للقربة أو السقاء، فإذا نامت العين، استرخى ذلك الوكاء واستطلق، فكنى بالاسترخاء والاستطلاق عن الحدث وخروج الريح، هذا من أحسن الكنايات وألطفها، وقد جاءت هذه الكناية تصريحا في حديث آخر، في قوله صلى الله عليه وسلم ، في حديث عائشة: ( إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد [ ص: 142 ] حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ) [19] .

      أما وجه المجاز في الحديث، أن وصف القلب بالنوم أو عدمه، لا يراد على الحقيقة، مثلما يوصف به الإنسان والحيوان. وذهب العلماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم ، لو كان قلبه لا ينام على الحقيقة كقلوب الناس، لكان ذلك من أكبر معجزاته، ولوجـب أن تتظاهر الأخبار بنقـله، كما تظاهرت بنقل غيره من أعلام نبوته، مما أبانه الله تعالى به عمن سواه من خلقه. هذا وقد جوز الشريف الرضي أن يكون معـنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( تنام عيناي، ولا ينام قلبي ) أنه لا يعتقـد في حـال نومـه من الرؤيا الفاسـدة، والمنـامات المتضادة ما يعتقده غـيره من سائر البشر، فيكون في حكم المستيقظ وبمنـزلة المتحفظ [20] . وكلا المعنيين محتمل.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية