الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - المطابقة:

      المطابقة هي الجمع بين الضدين في كلام أو بيت شعر [1] . وهو، وإن كان من صفات المعاني، فإن له قيمة جمالية من حيث اللفظ به في الكلام، ويقال له التضاد، والتكافؤ، والطباق، والتطبيق [2] . ومما ورد منه في القرآن، قوله تعالى: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ) (التوبة:82).

      وأما ما ورد منه في الشعر، فكقول كثير:


      وعن نجلاء تدمع في بياض إذا دمعت، وتنظر في سواد






          

      [3] [ ص: 179 ]

      أما ما ورد في البيان النبوي، فنحو ما روي عنه صلى الله عليه وسلم ، في بعض خطبه:

      ( يا أيها الناس؛ إن لكم علما فانتهوا إلى علمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم؛ فإن المؤمن بين مخافتين؛ بين أجل قد مضى لا يدري كيف صنع الله فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري كيف الله بصانع فيه. فليتزود المرء من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشباب قبل الهرم، ومن الصحة قبل السقم؛ فإنكم خلقتم للآخرة، والدنيا خلقت لكم. والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار. وأستغفر الله لي ولكم ) [4] .

      في هذا الحديث كثير من الألفاظ المتقابلة التي بينها مطابقة، مثل "الدنيا والآخرة"، و"الشباب والهرم"، و"الصحة والسقم"، و"الجنة والنار".

      وبفضل قيمة "الطباق" بين الأضداد، تترك هذه المقابلات في نفس السامع ضربا من الموازنات، التي تنبه فيه ضرورة ترجيح إحدى الجهتين على الأخرى ولزومها، قبل فوات الأوان. وهذا مقصد معنوي عميق من وراء الطباق اللفظي، يسعى المتكلم إلى تثبيته في نفس المخاطب وتمكينه. والشواهد على ذلك من الحديث النبوي كثيرة جدا، منها على سبيل المثال: [ ص: 180 ] الحديث الذي أورده الإمام مالك، وهو حديث ابن عمر مرفوعا، وفيه نظر: ( أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله. من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله ) [5] .

      وهـذا حـديث عظيم - وفيه نظر [6] - فيه من القيم اللفظية والبلاغية ما يفصح عن أن الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، ونوع من العناد لهم. وفي الاستتار بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقـامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حدا. وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك. [ ص: 181 ]

      والقاذورات جمع قاذورة، وهي كل قول أو فعل يستفحش أو يستقبح، لكن المراد هنا فاحشة الزنا؛ لأنه لما رجم ماعزا ذكره. وسميت قاذورة لأن حقها أن تتقذر، فوصفت بما يوصف به صاحبها. فمن ألم بمعصية فقاربها وواقعها، فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود؛ فإنه -أي الشأن- من يبد لنا صفحته أي: يظهر جانب فعله ووجهه وناحيته مما حقه الإخفاء والستر، يقم عليه الحد. وقد كنى بإبداء صفحة فعله عن ثبوت موجب الحد. فيجب على المكلف إذا ارتكب ما يوجب لله حدا الستر على نفسه والتوبة، فإن أقر أقيم عليه الحد أو التعزير. فمن ابتلي بشيء من هذه المعاصي المستقذرة، فعليه أن يستتر [7] .

      وهكذا فقد كافأ الحديث الاستتار بإبداء الصفحة، وهذا المصدر غير مذكور، ولكنه مفهوم من الاستتار، عن طريق المقابلة والطباق.

      ومن ذلك حديث: ( خير المال عين ساهرة لعين نائمة ) [8] . ومعناه عين ماء تجري ليلا ونهارا وصاحبها نائم، استعار السهر لعين الماء تشبيها لها بسهر عين الإنسان. ومن جمال العبارة الجناس بين العين الجارحة والعين الجارية، والمطابقة بين "الساهرة" و"النائمة". [ ص: 182 ]

      ومثل ذلك حـديث عائشة: ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينـزع من شـيء إلا شانه ) [9] ، وفي رواية: ( عليك بالرفق؛ فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه )

      ويؤيد هذا المعنى مدح النبي صلى الله عليه وسلم للرفق، فيما روي عنه في قوله: ( إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ) [10] . والمعنى أنه يتأتى مع الرفـق من الأمـور ما لا يتأتى مع ضده، وإن الله يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، والأول أوجه. وقوله في حديث شريح بن هانئ: إن ( الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ) وفي حديث أبي الدرداء: ( من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ) أخرجه الترمذي وصححه، وابن خزيمة، وفي حـديث جرير، مسلم: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله" [11] . و"زانه" أي زينه وكمله، و"لا نزع" أي لم يفقد ولم يعدم من شيء "إلا شانه" أي عيبه ونقصه، و"شانه" من الشين بمعنى العيب [12] . [ ص: 183 ]

      عليك يا عائشة بالرفق، أي بلين الجانب والاقتصاد في جميع الأمور والأخـذ بأيسـر الوجـوه وأقربها وأحسنها؛ "فإن الرفق لا يكون"، أي لا يوجد -وكان تامة لا ناقصة- في شيء "إلا زانه"؛ إذ هو سبب لكل خير. "ولا ينزع من شيء إلا شانه" أي عابه. قاله لها وقد ركبت بعيرا فيه صعوبة، فجعلت ترده وتضربه. والجار "في شيء" متعلق به، ويحتمل أن تكون "كان" ناقصة و"في شيء" خبرها، والاستثناء مفرغ من أعم، وفيه وصف لشيء؛ أي لا يكون الرفق مستترا في شيء يتصف بصفة من الأوصاف إلا بصفة الزينة، والشيء عام في الأعراض والذوات [13] .

      عليك يا عائشة بالرفق، وإياك والعنف، أي الشدة والمشقة. أي احذري العنف؛ فإن كل ما في الرفق من الخير، ففي العنف من الشر مثله. وهذا حث على التخلق بالرفق وذم العنف.

      وقد أخرج هذا المعنى العظيم، الذي يأمر فيه بالرفق وينهى عن العنف، مخرجا لفظيا بليغا جمع بين الإيجاز، وبين الجمع في الكلم، أي الاستقصاء لكل ما يصدق عليه، بألفاظ العموم مثل "لا يكون في شيء" و"لا ينزع من شيء"... وبين أسلوب الموازنة بين أمرين متضادين، يطلب أحسنهما ويدفع أشرهما، وهو المطابقة أو التكافؤ بين "لا يكون ولا ينزع" ثم بين "زانه وشانه". [ ص: 184 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية