الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - نموذج تطبيقي لتحليل بلاغة النص الحديثي:

      وأختم هذا القسم المتعلق بنماذج تحليلية من جوامع الكلم في نصوص الحديث، بعرض لأوجه بلاغية منوعة، في حديث معاذ بن جبل، مستفيدا في ذلك ومسترشدا بطريقة البلاغي شرف الدين حسين بن محمد الطيبي (ت.743) في كتابه "التبيان في علم المعاني والبديع والبيان"، الذي ختمه بشرح الحديث المذكور، شرحا وافيا مستفيضا، بلغ ست عشرة صفحة. أجمل فيه ما سبق أن فصل فيه من أوجه المعاني والبيان والبديع والفصاحة، داخل الكتاب؛ وذلك ليكون هذا الشرح للحديث كالفهرس لهذه الفنون والمرشد في التطبيق [1] : [ ص: 187 ]

      عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال:

      ( بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحر فتفرق القـوم حتى نظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقربهم مني، فدنوت منه فقـلت: يا رسول الله، أنبئني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: وإن شئت أنبأتك بأبواب الجنة، قلت: أجل يا رسول الله. قال: الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله. قال: ثم قرأ هذه الآية: ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) (السجدة:16). قال: وإن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه. قال: قلت: أجل يا رسول الله. قال: أما رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فالصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد في سبيل الله، وإن شئت أنبأتك بملاك ذلك كله، فسكت فإذا راكبان يوضعان [2] قبلنا، فخشيـت أن يشغلاه عن حـاجتي، قال: فقلت: ما هو يا رسول الله؟ قال: فأهوى بإصبعـه إلى فيه، قال: فقلت: يا رسـول الله، وإنا لنؤاخذ بمـا نقول بألسنتنا؟ قـال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم ) [3] . [ ص: 188 ]

      هذا أنموذج من الأحاديث الجامعة، التي جمعت بين مزايا عديدة في أبواب بلاغية شتى، وجهات كثيرة في المعاني والبيان والبديع:

      فمن حيث المعاني: أخرج الإسناد في قوله ( تعبد الله... ) مخرج الجملة الابتدائية؛ حيث كان معاذ خالي الذهن، وإن كان هو السائل. وفي قوله: ( لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه ) أخرج مخرج الجملة الإنكارية؛ لما رأى في السائل من الإنكار. وفي قوله: ( الصوم جنة ) إثبات للمبتدأ، وفي قوله: ( تعبد الله ) ترك له، والتقدير: أن تعبد الله. وقوله: ( يدخلني... ) صفة لعمل، وهي إما صفة مخصصة، أي: مطلوبي عمل هذه صفته، أو مادحة، أي عمل محمود. وفي قوله: ( يا رسول الله ) إضافة تشريف. وفي قوله: ( رأس الأمر ) إضافة مجازية. وفي قوله: ( ثكلتك أمك يا معاذ ) تنبيه وقرع عصا. والإشارة في قوله: ( ملاك ذلك كله ) إشارة إلى مذكور، وهو قريب والإشارة هنا لتعظيمه. أما الإشارة في: "كف عليك هذا" فلمزيد الاهتمام والتعيين. والتنكير في قوله: "بعمل" دال على الإفراد نوعا، والتنكير في قوله: ( عظيم ) دال على التعظيم، وفي "يسير" دال على التقليل.

      أما قوله: ( الصوم جنة ) فهو جملة اسمية بسيطة ورد فيها المسند إليه معرفة، والمسند دالا على الثبوت، أما المسند الفعل في قوله: ( الصدقة تطفئ الخطيئة ) فإنه يدل على تقوية الفعل وأن حصول إطفاء الخطيئة محقق...

      أما قوله: ( وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم... ) ففيه قصر؛ حيث قصر المفعول به "الناس" على الفاعل "حصائد" قصر قلب. [ ص: 189 ]

      أما قوله: ( سألتني عن عظيم ) ففيه إيجاز تقدير، أي سألتني عن مسؤول عظيم بالغ في العظمة متناه في الفخامة، أما قوله: ( كف عليك هذا ) ففيه إيجاز جامع؛ فإنه من الجوامع؛ لأن المسؤول عنه أحد شطري الإسلام...

      أما قوله: ( أخبرني بعمل... ) ففيه إطناب محمود يقتضيه المقام ويدعو إليه؛ وذلك أن مطلوب معاذ لما كان من الوسائل العظيمة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استهل الجواب وافتتحه ومهد له بمقدمة نبه فيها على فخامة المسؤول، بأن أكدها تأكيدا بليغا وعظمها غاية التعظيم، وهكذا كلما قصد أن يجيب عن سؤال جعل له تمهيدا أو توطئة؛ ليمكنه في الذهن ويوطنه فيه. ومن الإطناب المحمود إعادة ألفاظ متقاربة في المعنى، نحو ( رأس الأمر وعموده وذروة سنامه"؛ ) لأن المقام مقام إرشاد يدعو إلى الإطناب.

      أما قوله: ( أخبرني... ) فظاهره أمر، ولكنه استدعاء وطلب. وقوله: ( كف عليك... ) فهو أمر تنـزيه، وأما قوله: ( تعبد الله... ) ففيه عدول عن الأمر الصريح، لفائدة الإخبار عن المأمور به، إظهارا للحرص بوقوعه...

      وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

      وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما. [ ص: 190 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية