الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      4- تناسب أجزاء النص:

      من مظاهر انسجام النص القرآني وتماسك بنائه: تناسب أجزائه:

      يدخل في هذا الباب كل المباحث اللغوية والنحوية والبلاغية التي تعنى بالعلاقات الكبرى بين أجزاء النص، ومن شأن هذه الدراسة النصية أن تجنب النص القرآني القراءة التجزيئية، وتقدم قراءة جامعة تنتظم فيه الكلمات والآيات والسور في سلك واحد، وتنتظم فيه المعاني والدلالات والمقاصد في أصل واحد، فيبدو النص القرآني كله قطعة واحدة يكون فيها الكلام متحدرا تحدر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ، وجمع معان، وهذا الجامع بين الأجزاء هو الذي سماه الإمام البقاعي بالأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن [1] ، وهو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند [ ص: 58 ] انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة سورة. وقد أشار الإمام فخر الدين الرازي إلى أن أكثر لطائف القرآن الكريم مودعة في الترتيبات والروابط [2] .

      ويدخل في باب المناسبة التذييل وهو باب من أبواب البديع، وهو ضرب من التعقيب على ما سبق في الآية؛ وهو أن يؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول تحقيقا لدلالة منطوق الأول أو مفهومه؛ ليكون معه كالدليل ليظهر المعنى عند من لا يفهم ويكمل عند من فهمه، كقوله تعالى: ( ذلك جزيناهم بما كفروا ) (سبأ:17)، ثم قال تعالى: ( وهل نجازي إلا الكفور ) (سبأ:17)؛ أي لا يجازى ذلك الجزاء الذي يستحقه الكفور إلا الكفور [3] ، ومثله: ( وقل جاء الحق وزهق الباطل ) (الإسراء:81)، وبعده: ( إن الباطل كان زهوقا ) (الإسراء:81).

      فالملاحظ أن بين مضمون الآية ومضمون التذييل انسجاما وتآلفا وتناسبا؛ فلا تجد آية عقاب تذيل بآية رضوان، فإن البيان القرآني بقيمه وأدواته يتجـه نحـو رعاية مطالب المعنى وتناسب الصدور والخواتيم؛ ومن الشـواهد عـلى عبارات التذييـل، قولـه تعالى: ( والله ذو [ ص: 59 ] فضل على المؤمنين ) (آل عمران:152)، ( والله خبير بما تعملون ) (آل عمران:153)، ( إن الله عليم بذات الصدور ) (آل عمران:119)، ( إن الله غفور حليم ) (آل عمران:155)، كل آية من هذه الآيات وردت في سياق التذييل لما قبلها، بعد تمام المعنى.

      ويدخل في المناسبة أيضا باب من أبواب البديع، وهو التتميم؛ وهو إرداف الكـلمة بأخرى ترفع عنها اللبس وتقربها من الفهم، و تتم المعنى إما مبالغة أو احترازا أو احتياطا، نحو قوله تعالى: ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) (البقرة:206)، تم المعنى بقوله ( بالإثم ) ؛ وذلك أن العزة تكون محمودة ومذمومة؛ فمن مجيئها محمودة: ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) (المنافقون:8)، ( أعزة على الكافرين ) (المائدة:54)، فلو أطلقت كلمة العزة لتوهم فيها بعض من لا عناية له العزة المحمودة، لذلك قيل: ( بالإثم ) تتميما للمراد فرفع اللبس بها [4] .

      ففي اللفظ المتمم إلحاق يكمل به المعنى؛ إذ يأتي المعنى غير مشروح وربما كان السامع لا يتأمله ليعود المتكلم إليه شارحا، نحو قوله تعالى: ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) (الإنسان:8)، فالتتميم [ ص: 60 ] في قوله: ( على حبه ) جعل الضمير الهاء كناية عن الطعام مع اشتهائه. وكذلك قوله: ( وآتى المال على حبه ) (البقرة:177)، وقوله: ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) (النساء:124)، فقوله: ( وهو مؤمن ) تتميم في غاية الحسن [5] .

      ويدخل في المناسبة أيضا تجانس الألفاظ والمزاوجة بينها؛ كقوله تعالى: ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (البقرة:194)، ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ) (البقرة:14-15)، ( يخادعون الله وهو خادعهم ) (النساء:142)، ( إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا ) (الطارق:15-16)، ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) (آل عمران: 54)، ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) (الشورى:40)، ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) (الرحمن:60)، ومن قبيل المناسبة أيضا: ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) (التوبة:127)، ( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) [6] (النور:37). [ ص: 61 ]

      ولقد أشار الجاحظ إلى نظم القرآن واستمراره واطراد أساليبه على الصفة العالية في البلاغة والفصاحة، فقال: "وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر؛ لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث، ولفظ القرآن الذي عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سموات لم يقل الأرضين، ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين، ولا السمع أسماعا، والجاري على أفواه العامة غير ذلك، لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال..." [7] .

      وفرق في موضع آخر بين نظم القرآن وتأليفه وبين نظم سائر الكلام وتأليفه؛ فليس يعرف فروق النظم واختلاف البحث والنثر إلا من عرف القصيد من الرجز، والمخمس من الأسجاع والمزاوج من المنثور والخطب من الرسائل... فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم القرآن لسائر الكلام [8] . [ ص: 62 ]

      والدليل على هذا الأمر الكلي على سبيل المثال لا الحصر سورة الفاتحة التي تعد أم الكتاب؛ فقد "اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن..." [9] ، ثم أخبر تعالى بهذا المعنى في قوله سبحانه: ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) (هود:1)، فالإحكام إحكام لبناء متين حتى لا يخرقه خارق، "القرآن محفوظ ومغلق بإحكام أمام كل محاولات الاختراق" [10] ، فهو بناء واحد متماسك لا يقبل التجزؤ أو التعدد، فلا يقبل كتاب الله أن نهتم بجانب منه ونهمل الجوانب الأخرى، فلا تفتح الآيات والسور معناها لقارئها حتى يعرضها على سياقها وموقعها من النص القرآني كله.

      والنص القرآني نص متماسك تترابط ألفاظه ترابطا لغويا نحويا متينا، وينشئ الترابط نظاما ومعمارا محكما لا يقبل التجزيء، حتى قالوا: إن القرآن الكريم كله كالسورة الواحدة، يذكر الشيء في سورة ويأتي بالجواب في سورة أخرى [11] ، نحو: ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك [ ص: 63 ] لمجنون ) ، وجوابه: ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) (القلم:2)، فالكلام القرآني كله في جريان كالماء المنسجم؛ وكلما قوي الانسجام حسبت فقراته موزونة بلا قصد [12] ، نحو قوله تعالى: ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (الكهف:29)، وقوله: ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) (هود:37)، وقوله: ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) (البقرة:213)، وقوله: ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم ) (الحجر:49-50).

      تختلف ألفـاظ القرآن الكريم و لا تراها إلا متفقة، وتفترق ولا تراها إلا مجتمعـة، وتذهب في طبقـات البيان وتنتقل في منازل البـلاغة، وأنت لا تعرف منهـا إلا روحا تداخلك بالطرب، وتشرب قلبك الروعة... فأنت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجـزاؤها في جهـات التركيب وموضع التأليف وألوان التصـوير وأغراض الكـلام، كأنها تفضـي إليك جملة واحدة حتى تؤخذ بها [13] . [ ص: 64 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية