الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      - دلالة الكناية في البيان النبوي:

      الكناية لغة مصدر "كنى" به عن كذا "يكني"، إذا تكلم بشيء يستدل به على غيره أو يراد به غيره، أو هي أن تتكلم بشيء وتريد غيره [1] . والكناية إما يقصد بها الموصوف "كما يقصد بعريض الوسادة الكناية عن كثير النوم، أو بعريض القفا عن الأبله"، أو يقصد بها المنسوب "كطويل النجاد كناية عن طول القامة". والكناية عند علماء البيان، هي أن يعبر عن شيء بلفظ غير صريح في الدلالة عليه، لغرض من الأغراض، كالإبهام على السامع أو غير ذلك [2] ، فهي بذلك اختصار وتلميح، يطلق فيه اللفظ ويراد به لازم معناه، سواء أريد معه المعنى الأصلي أم لم يرد، أو يراد إثبات معنى من المعاني فلا يذكر باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يعمد إلى معنى آخر هو تاليه وردفه، فيومأ به إليه ويجعل دليلا عليه، من طريق يخفى ومسلك يدق.

      وقد عرفه عبد القاهر الجرجاني بقوله: "... المراد بالكناية "..." أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه. ومثال ذلك قولهم: "هو طويل النجاد"، ويريدون طويل القامة، و"كثير رماد القدر" يعنون كثير القرى... فقد أرادوا في هذا كله كما ترى معنى، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان" [3] . [ ص: 147 ]

      ومن الأحاديث التي تضمنت الكناية، ما رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ( إن مثل ما بعثني الله عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعـوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسـك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقـه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) [4] .

      الغيث اسم عام للمطر يغيث الله به عباده ويصيب به مواقع النفع لهم، يقال: غيثت الأرض فهي مغيثة وأكلأت فهي مكلئة. وهذا مثل للنبي صلى الله عليه وسلم في إبلاغه عن الله عز وجل، ودعائه إلى سبيله، وأنه بعث رحمة للعالمين ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم. ومثل ذلك بالغيث الذي نشر الله به رحمتـه في الأرض، وأحيى به الأنعام والحرث. والذين استمعوا قوله وشاهدوا أمره في اختـلاف مذاهبهم وطرائقهم ببقاع الأرض التي يختلف تربها وأماكنها، فمنها ذات الرياض المعشبة الكثيفة التي يكثر خيرها ويعم نفعها، ومنها الأماكن ذات الغياض والغدران وغيرها من الأماكن التي يستنقع فيها الماء فيرد إليها الناس والأنعام، ومنهـا ما لا يتعـلق [ ص: 148 ] من المطر إلا بقـليل منه، وهو مثل لمن فقه عن الله عز وجل، وتفقه لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعلم وعلم وعمـل، ومثل لحامل علمه إلى من هو أوعى منه، كما ورد في حديث آخر: ( فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) [5] ، ومثل للسامع المعرض المحـروم. والأجـادب صـلاب الأرض التي تمسك الماء فلا تشربه سريعا [6] . وقيل هي الأرض التى لا نبات بها، مأخوذ من الجدب وهو القحط. وفي حديث عمر، رضي الله عنه، أنه جدب السمر بعد العشاء [7] ، أي ذمه وعابه. وكل عائب جادب [8] .

      والحديث بليغ يشتمل على صور أدبية رفيعة؛ فقد شبه العلم بالغيث تشبيه معقول بمحسوس، وشبه الناس بالأرضين، كل صنف منهم بطائفة منها، وأفردت الأرض لفظا ونكرت تنكير تنويع، ثم فصلت طوائفها، وعرفت بالوصف. وسيقت الصور التشبيهية مساق الإلماح والإيماء، حيث يهتدي العقل إلى إدراكها وربط كل مشبه بالمشبه به المناسب له.

      أما الكناية الواردة فيه ففي قوله: ( ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ) فعدم رفع الرأس كناية عن الإعراض والتولي، وعدم الاستجابة للهدى والعلم، وعـدم الإصغـاء إليه. فهذا المعرض، على الرغم من أن الهدي [ ص: 149 ] قد قرع سمعه لم يعبأ به، ولم يرفع بشيء منه رأسا، كبرا وقسوة قلب وجفاء طبع.

      ومن ذلك ما ورد في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس [9] ، من عبارات بليغة، منها قوله: ( ... واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا ) [10] .

      وفي هذا الحديث كناية عن حصول النصر بعد الصبر على الشدائد، وحصول الفرج بعد اشتداد الأزمة والكرب، وحصول اليسر بعد معاناة العسر ومقاسـاة الضر. ووجه الكناية أن هذه النتائج تأتي بعد الأسباب [ ص: 150 ] ولا تصاحبها، وفي ادعاء المصاحبة كناية عن الترتيب والتعقيب [11] ، واشتهر في كلام العرب ذكر الأمرين مقترنين كناية متعاقبين حقيقة كقول القائل: "اشتدي أزمة تنفرجي"

      [12] أي اشتدي يا أزمة، والأزمة سنة القحط، والمعنى: ابلغي النهاية في الشدة حتى تنفرجي؛ فإن الشدة إذا تناهت انفرجت، بشهادة الاستقراء. فليس المراد حقيقة أمر الشدة بالاشتداد، بل المراد طلب الفرج. ونوديت الأزمـة مع حذف أداة النداء، إقامة للسبب مقام المسبب، وفيه نوع تسـلية وتأنيس بأن الشدة المتناهية نوع من النعمة؛ لما يترتب عليها [13] . ومن كلام العرب أيضا: " إن الشدة إذا تتابعت انفرجت، وإذا توالت تولت" [14] . [ ص: 151 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية