الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أو كان ) المبيع ( طعاما فأكله أو بعضه ) أو أطعمه عبده أو مدبره أو أم ولده أو لبس الثوب حتى تخرق فإنه يرجع بالنقصان استحسانا عندهما ، وعليه الفتوى بحر [ ص: 23 ] وعنهما يرد ما بقي ويرجع بنقصان ما أكل وعليه الفتوى اختيار وقهستاني ولو كان في وعاءين فله رد الباقي بحصته من الثمن اتفاقا ابن كمال وابن ملك [ ص: 24 ] وسيجيء . قلت : فعلى ما في الاختيار والقهستاني يترجح القياس قنية .

التالي السابق


( قوله أو كان المبيع طعاما فأكله ) احترز بالأكل عن استهلاكه بغيره ، ففي الذخيرة ، قال القدوري : ولو اشترى ثوبا أو طعاما وأحرق الثوب أو استهلك الطعام ثم اطلع على عيب لا يرجع بشيء بالنقصان بلا خلاف . ا هـ وكذا لو باعه أو وهبه ثم اطلع على عيب لم يرجع إجماعا كما في السراج لكن في بيع بعضه الخلاف الآتي ، وأراد بالطعام المكيل والموزون كما يعلم من الذخيرة والخانية .

مطلب فيما لو أكل بعض الطعام ( قوله فأكله أو بعضه ) أي ثم علم بالعيب كما في الهداية ، وهذا يدل على أن الرجوع فيما إذا أطعمه عبده أو مدبره أو أم ولده أو لبس الثوب حتى تخرق مقيد بما قبل العلم بالعيب ، فلو أخر الشارح قوله قبل علمه بعيبه عن قوله أو لبس الثوب حتى تخرق ليكون قيدا في المسائل العشرة لكان أولى ح

قلت : ويؤيده أنه في الفتح قال بعد هذه المسائل : وفي الكفاية كل تصرف يسقط خيار العيب إذا وجده في ملكه بعد العلم بالعيب فلا رد ولا أرش ; لأنه كالرضا به .

[ تنبيه ] وقع في المنح أو أكله بعد اطلاعه على العيب ، وهو سبق قلم كما نبه عليه الرملي ( قوله أو أطعمه عبده أو مدبره أو أم ولده ) إنما يرجع في هذه المسائل ; لأن ملكه باق كما في البحر ، يعني أن العبد والمدبر وأم الولد إنما أكلوا الطعام على ملك السيد ; لأنهم لا يملكون ، وإن ملكوا فكان ملكه باقيا في الطعام ، والرد متعذر كما قررناه في الإعتاق ، بخلاف ما إذا أطعمه طفله وما عطف عليه مما سيأتي حيث لا يرجع ; لأن فيه حبس المبيع بالتمليك من هؤلاء فإنهم من أهل الملك . ا هـ ح ( قوله فإنه يرجع بالنقصان استحسانا عندهما ) الذي في الهداية والعناية والفتح والتبيين أن الاستحسان عدم الرجوع وهو قول الإمام فليحرر . ا هـ ح .

قلت : ما ذكره الشارح من أن الاستحسان قولهما ذكره في الاختيار ، وتبعه في البحر وكذا نقله عنه العلامة قاسم ونبه على أنه عكس ما في الهداية وسكت عليه فلذا مشى عليه المصنف في متنه . وذكر في الفتح عن الخلاصة أن عليه الفتوى وبه أخذ الطحاوي ، لكن قال في الفتح بعده : إن جعل الهداية قول الإمام استحسانا مع تأخيره وجوابه عن دليلهما يفيد مخالفته في كون الفتوى على قولهما . ا هـ .

قلت : ويؤيده أنه في الكنز والملتقى وغيرهما مشوا على قول الإمام وفي الذخيرة : ولو لبس الثوب حتى تخرق من اللبس أو أكل الطعام لا يرجع عنده هو الصحيح خلافا لهما . ا هـ

والحاصل أنهما قولان مصححان ولكن صححوا قولهما بأن عليه الفتوى . ولفظ الفتوى آكد ألفاظ التصحيح ولا سيما هو أرفق بالناس كما يأتي فلذا اختاره المصنف في متنه وهذا في الأكل أما البيع ونحوه فلا رجوع فيه إجماعا كما علمت ، ويأتي وجه الفرق .

[ تنبيه ] ظاهر كلام الشارح أن الخلاف جار في جميع المسائل التي ذكرها مع أنهم لم يذكروه إلا في أكل الطعام ولبس الثوب أفاده ح . [ ص: 23 ] قلت : الظاهر جريان الخلاف في مسائل الإطعام أيضا ; لأنه لو أكل الطعام لا يرجع عند الإمام ، فكذا إذا أطعمه عبده بالأولى تأمل ( قوله وعنهما يرد ما بقي ويرجع بنقصان ما أكل ) هذه رواية ثانية عنهما في صورة أكل البعض ، والأولى أنه يرجع بنقصان العيب في الكل ، فلا يرد ما بقي ، هكذا نقل عنهما القدوري في التقريب وتبعه في الهداية ، وذكر في شرح الطحاوي أن الأولى قول أبي يوسف ، والثانية قول محمد كما في الفتح . وأما عند الإمام فلا يرد ما بقي ولا يرجع بنقصان ما أكل ولا ما بقي . في الذخيرة والفتوى على قول محمد كما نقله في البحر عن الاختيار والخلاصة ، ومثله في النهاية وغاية البيان وجامع الفصولين والخانية والمجتبى ، فلذا اقتصر عليه الشارح وهذا كله في أكل البعض . أما لو باع بعض المكيل والموزون ففي الذخيرة أنه عندهما لا يرد ما بقي ولا يرجع بشيء وعن محمد يرد ما بقي ولا يرجع بنقصان ما باع هكذا ذكره في الأصل . وكان الفقيه أبو جعفر وأبو الليث يفتيان في هذه المسائل بقول محمد رفقا بالناس ، واختاره الصدر الشهيد . ا هـ . وفي جامع الفصولين عن الخانية وعن محمد لا يرجع بنقص ما باع ويرد الباقي بحصته من الثمن وعليه الفتوى . ا هـ ومثله في الولوالجية والمجتبى والمواهب

والحاصل أن المفتى به أنه لو باع البعض أو أكله يرد الباقي ويرجع بنقص ما أكل لا بنقص ما باع . والفرق كما في الولوالجية أنه بالأكل تقرر العقد ، فتقرر أحكامه ، وبالبيع ينقطع الملك فتنقطع أحكامه ، قال فصار بمنزلة ما لو اشترى غلامين فقبضهما وباع أحدهما ثم وجد بهما عيبا يرد ما بقي ولا يرجع بنقصان ما باع بالإجماع ، فكذا هنا عند محمد . ا هـ .

قلت : لكن سيذكر المصنف تبعا لغيره من المتون لو وجد ببعض المكيل أو الموزون عيبا له رد كله أو أخذه فإن مقتضاه أنه ليس له رد المعيب وحده . إلا أن يقال إنه محمول على ما إذا كان كله باقيا في ملكه لم يتصرف في شيء منه بقرينة قوله له رد كله ، فيفرق بين ما إذا بقي كله وبين ما إذا تصرف ببعضه ببيع أو أكل . أو يقال هو مبني على قول غير محمد تأمل .

[ تنبيه ] الطعام في عرفهم البر ، والمراد به هنا هو وما كان مثله من مكيل وموزون كما علم مما نقلناه آنفا عن الذخيرة وفي البحر عن القنية : ولو كان غزلا فنسجه أو فيلقا فجعله إبريسما ثم ظهر أنه كان رطبا وانتقص وزنه رجع بنقصان العيب بخلاف ما إذا باع . ا هـ وبه علم أن الأكل غير قيد بل مثله كل تصرف لا يخرجه عن ملكه كما يعلم مما قدمناه عن المحيط ، وتقدم حكم القيمي عند قوله كما لا يرجع لو باع المشتري الثوب إلخ ( قوله ابن كمال ) حيث قال والخلاف فيما إذا كان الطعام في وعاء واحد أو لم يكن في وعاء ، فإن كان في وعاءين فله رد الباقي بحصته من الثمن في قولهم كذا في الحقائق والخانية . ا هـ .

قلت : ولفظ الخانية ، فإن كان في وعاءين فأكل ما في أحدهما أو باع ثم علم بعيب كان له أن يرد الباقي بحصته من الثمن في قولهم ; لأن المكيل والموزون بمنزله أشياء مختلفة ، فكان الحكم فيه ما هو الحكم في العبدين والثوبين ونحو ذلك . ا هـ . ومقتضاه أنه لا خلاف في ثبوت رد المعيب وحده ، نعم نقل العلامة في تصحيحه عن الذخيرة [ ص: 24 ] إن من المشايخ من قال لا فرق بين الوعاء والأوعية ليس له أن يرد البعض بالعيب ، وإطلاق محمد في الأصل يدل عليه وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي . ثم قال العلامة قاسم والأول أقيس وأرفق ( قوله وسيجيء ) أي قبيل قوله اشترى جارية ، لكن الذي سيجيء هو ترجيح عدم الفرق بين الوعاء والأكثر ( قوله فعلى ما في الاختيار إلخ ) أي من قوله وعنهما يرد ما بقي ويرجع إلخ فإنه يفيد أنه قياس لذكره له بعد قوله فإنه يرجع بالنقصان استحسانا عندهما .

مطلب يرجح القياس وحاصله أن إحدى الروايتين عنهما استحسان ، والثانية قياس ، فيكون ترجيح الثانية كما وقع في الاختيار والقهستاني من ترجيح القياس عن الاستحسان ، هذا تقرير كلام الشارح ، وبه اندفع ما قيل إن الشارح وافق هنا ما في الهداية وغيرها من أن القياس قولهما فافهم ، نعم ما فهمه الشارح على ما قررناه خلاف المفهوم من كلامهم ، فقد قال في الهداية وأما الأكل فعلى الخلاف ، عندهما يرجع ، وعنده لا يرجع استحسانا . وإن أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب فكذا الجواب عنده وعنهما أنه يرجع بنقصان العيب في الكل . وعنهما أنه يرد ما بقي . ا هـ . وقال في الاختيار : عندهما يرجع استحسانا ، وعنده لا يرجع إلخ فإنه المفهوم من هذا أنه في الهداية جعل الرجوع بالنقصان عندهما قياسا ، وعدمه عنده استحسانا . وفي الاختيار بالعكس .

وحاصله أن الرجوع بالنقصان عندهما قيل إنه قياس ، وقيل إنه استحسان ، ثم بعد قولهما بالرجوع بالنقصان ففي صورة أكل البعض ، عنهما روايتان : الأولى يرجع بنقصان الكل فلا يرد الباقي ، والثانية يرجع بنقصان ما أكل فقط ويرد ما بقي ، وأنت خبير بأنه ليس في هذا ما يفيد أن إحدى هاتين الروايتين قياس والأخرى استحسان كما فهمه الشارح ، بل كل منهما قياس على ما في الهداية ، والاستحسان قول الإمام بعدم الرجوع بشيء أصلا ، وكل منهما استحسان على ما في الاختيار ، والقياس قول الإمام المذكور فتنبه




الخدمات العلمية