الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 447 ] ( ولا يمنع الشخص من تصرفه في ملكه إلا إذا كان الضرر ) بجاره ضررا - [ ص: 448 ] ( بينا ) فيمنع من ذلك وعليه الفتوى بزازية ، واختاره في العمادية وأفتى به قارئ الهداية ، حتى يمنع الجار من فتح الطاقة ، وهذا جواب المشايخ استحسانا ، وجواب ظاهر الرواية عدم المنع مطلقا وبه أفتى طائفة ، كالإمام ظهير الدين وابن الشحنة ووالده ورجحه في الفتح وفي قسمة المجتبى وبه يفتى ، واعتمده المصنف ثمة فقال : وقد اختلف الإفتاء ، وينبغي أن يعول على ظاهر الرواية ا هـ قلت : وحيث تعارض متنه وشرحه فالعمل على المتون كما تقرر مرارا فتدبر . قلت : وبقي ما لو أشكل هل يضر أم لا ، وقد حرر محشي الأشباه المنع - [ ص: 449 ] قياسا على مسألة السفل والعلو أنه لا يتد إذا أضر وكذا إن أشكل على المختار للفتوى كما في الخانية ، قال المحشي فكذا تصرفه في ملكه إن أضر أو أشكل ( يمنع وإن لم يضر لم يمنع ) قال : ولم أر من نبه عليه ، فليغتنم فإنه من خواص كتابي انتهى .

التالي السابق


( قوله ولا يمنع الشخص إلخ ) هذه القاعدة تخالف المسألة التي قبلها فإن المنع فيها من تصرف ذي السفل مطلق عن التقييد بكونه مضرا ضررا بينا أولى وهنا المنع مقيد بالضرر البين ولا سيما على ظاهر الرواية الآتي من أنه لا يمنع مطلقا نعم على ما قدمنا من أن المختار المنع في الضرر البين والمشكل تندفع المخالفة على ما مشى عليه المصنف هنا ، وقد يجاب بأن المسألة المتقدمة ليست من فروع هذه القاعدة فإن ما هنا في تصرف الشخص في خالص ملكه الذي لا حق للجار فيه وما مر في تصرفه فيما فيه حق للجار ، فإن السفل وإن كان ملكا لصاحبه إلا أن لذي العلو حقا فيه فلذا أطلق المنع فيه ولذا لو هدم ذو السفل [ ص: 448 ] سفله يؤمر بإعادته بخلاف ما هنا هذا ما ظهر لي فاغتنمه .

( قوله بينا ) أي ظاهرا ويأتي بيانه قريبا .

( قوله واختاره في العمادية ) حيث قال كما في جامع الفصولين والحاصل أن القياس في جنس هذه المسائل أن من تصرف في خالص ملكه لا يمنع منه ولو أضر بغيره لكن ترك القياس في محل يضر بغيره ضررا بينا وقيل بالمنع وبه أخذ كثير من مشايخنا وعليه الفتوى ا هـ .

قلت : قوله وقيل بالمنع عطف تفسير على قوله ترك القياس فليس قولا ثالثا ، نعم وقع في الخيرية : وقيل بالمنع مطلقا إلخ ، ومقتضاه أنه قول ثالث بالمنع سواء كان الضرر بينا أو لا لكن عزا في الخيرية ذلك إلى التتارخانية والعمادية وليس ذلك في العمادية كما رأيت ، فالظاهر أن لفظ مطلقا سبق قلم ; ويدل عليه قوله في الفتح : والحاصل أن القياس في جنس هذه المسائل أن يفعل المالك ما بدا له مطلقا لأنه متصرف في خالص ملكه لكن ترك القياس في موضع يتعدى ضرره إلى غيره ضررا فاحشا وهو المراد بالبين وهو ما يكون سببا للهدم ، أو يخرج عن الانتفاع بالكلية وهو ما يمنع الحوائج الأصلية كسد الضوء بالكلية واختاروا الفتوى عليه فأما التوسع إلى منع كل ضرر ما فيسد باب انتفاع الإنسان بملكه كما ذكرنا قريبا ا هـ ملخصا فانظر كيف جعل المفتى به القياس الذي يكون فيه الضرر بينا لا مطلقا ، وإلا لزم أنه لو كانت له شجرة مملوكة يستظل بها جاره وأراد قطعها أن يمنع لتضرر الجار به كما قرره في الفتح قبله .

قلت : وأفتى المولى أبو السعود أن سد الضوء بالكلية ما يكون مانعا من الكتابة فعلى هذا لو كان للمكان كوتان مثلا فسد الجار ضوء إحداهما بالكلية لا يمنع إذا كان يمكن الكتابة بضوء الأخرى ، والظاهر أن ضوء الباب لا يعتبر لأنه يحتاج لغلقه لبرد ونحوه كما حررته في تنقيح الحامدية . وفي البحر : وذكر الرازي في كتاب الاستحسان لو أراد أن يبني في داره تنورا للخبز الدائم كما يكون في الدكاكين أو رحى للطحن أو مدقات للقصارين لم يجز لأنه يضر بجيرانه ضررا فاحشا لا يمكن التحرز عنه فإنه يأتي منه الدخان الكثير ، والرحى والدق يوهن البناء ، بخلاف الحمام لأنه لا يضر إلا بالنداوة ويمكن التحرز عنه بأن يبني حائطا بينه وبين جاره ، بخلاف التنور المعتاد في البيوت ا هـ وصحح النسفي في حمام أن الضرر لو فاحشا يمنع وإلا فلا وتمامه فيه .

( قوله حتى يمنع الجار من فتح الطاقة ) أي يكون فيها ضرر بين بقرينة ما قبله وهو ما أفتى به قارئ الهداية لما سئل هل يمنع الجار أن يفتح كوة يشرف منها على جاره وعياله ؟ فأجاب بأنه يمنع من ذلك ا هـ ، وفي المنح عن المضمرات شرح القدوري : إذا كانت الكوة للنظر وكانت الساحة محل الجلوس للنساء يمنع وعليه الفتوى ا هـ قال الخير الرملي : وأقول لا فرق بين القديم والحديث حيث كانت العلة الضرر البين لوجودها فيهما .

( قوله ورجحه في الفتح ) حيث قال والوجه لظاهر الرواية .

( قوله ثمة ) أي في كتاب القسمة في المنح .

( قوله فالعمل على المتون ) قد يقال : إن هذا لا يقال في كل متن مع شرح بل هذا في نحو المتون القديمة ط أي وهذه المسألة ليست من مسائلها ويظهر من كلام [ ص: 449 ] الشارح الميل إلى ما مشى عليه المصنف في متنه لأنه أرفق بدفع الضرر البين عن الجار المأمور بإكرامه ، ولذا كان هو الاستحسان الذي مشى عليه مشايخ المذهب المتأخرين وصرحوا بأن الفتوى عليه .

والحاصل أنهما قولان معتمدان يترجح أحدهما بما ذكرنا والآخر بكونه أصل المذهب .

( قوله قياسا على مسألة السفل إلخ ) أقول : هذا غير مسلم لأنه مخالف لكلامهم مع أنه قياس مع الفارق وذلك أنك علمت أن أصل المذهب في مسألتنا عدم المنع مطلقا لكونه تصرفا في خالص ملكه ، وخالف المشايخ أصل المذهب فيما إذا كان الضرر بينا ولا يخفى أن التقييد بالبين مخرج للمشكل فالقول بمنع المشكل مخالف للقولين وقياسه على المشكل في مسألة السفل غير صحيح لأن المتون الموضوعة لنقل المذهب ماشية على منع التصرف فيها عكس مسألتنا .

وذكر بعض المشايخ أن المختار تقييد المنع بالمضر أو المشكل وما ذاك إلا لكونه تصرفا فيما للجار فيه حق وهو صاحب العلو فالأصل فيه عدم جواز التصرف إلا بإذنه بخلاف مسألتنا فإن الأصل فيها الجواز لكونه تصرفا في خالص حقه فإلحاق المشكل فيها بالمشكل في الأولى غير صحيح فافهم وهذا آخر ما حرره المؤلف بخطه من هذا الجزء ، وأما بقية الأجزاء فتممها بنفسه قبل حلول رمسه ، فبادر نجله السعيد السيد محمد علاء الدين إلى تكملة الجزء المذكور بتجريد الهوامش التي بخط والده وغيرها على الشرح فقال :

( بسم الله الرحمن الرحيم ) بالميل لبابك يجبر ثلم القلوب ، وبالترقب لهبوب نسمات منحك يضرب على صفحات ثقب الغيوب ، يا من بصر بعظيم قدرته العباد وقهرهم بها فلا يكون إلا ما أراد ، فنحمده بالحمد اللائق ، ونشكره على آلائه بالشكر الفائق ونصلي ونسلم على رسوله محمد المكمل لأمته وعلى آله وصحبه ومن لهج بدعوته . وبعد فإن العالم العامل والعلامة الكامل ، وحيد الدهر ، وفريد العصر ، سيد الزمان ، وسعد الأقران ، يعسوب العلماء العاملين ، ومرجع الجهابذة الفاضلين ، ومؤلف هذه الحاشية المرحوم سيدي وأستاذي ووالدي السيد محمد أفندي عابدين ، سقى الله ثراه صوب الغفران ، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته ، وأسكننا بحبوحة جنته لما وصل إلى هذا المحل من الكتاب اشتاق إلى مشاهدة رب الأرباب ، فنزل حياض المنون ، وآثر الجدث الذي ليس بمسكون .

وكان رحمه الله بدأ أولا في التأليف من الإجارة إلى الآخر ، ثم من أول الكتاب إلى انتهاء هذا التحرير الفاخر وترك على نسخته الدر بعض تعليقات وتحريرات واعتراضات قد كاد تداول الأيدي أن يذهبها لعدم من يذهبها مذهبها ، فأردت أن أجرد ما كتبه والدي على نسخته ، وألحقه بمسودته من غير زيادة عليه خوف الغلط ونسبته إليه ، وإن رأيت حاشية ليست من خطه أنبه عليها بقولي كذا أو ذكر أو في أو قاله في الهامش لعلمي بأنه أقرها وإلا شطبت عليها ، ومع هذا يلزم التنبيه كما ترى ، والله يعلم ويرى ، ومنه أطلب الإعانة والتوفيق لأقوم طريق قال رحمه الله تعالى ونفعنا به ورضي عنه آمين .




الخدمات العلمية