الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1980 38 - حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، عن عون بن أبي جحيفة قال: رأيت أبي اشترى عبدا حجاما، فأمر بمحاجمه، فكسرت، فسألته، فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب وثمن الدم، ونهى عن الواشمة والموشومة وآكل الربا وموكله، ولعن المصور.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "وآكل الربا وموكله" وأبو الوليد اسمه هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري، وعون بفتح [ ص: 203 ] العين المهملة وسكون الواو وفي آخره نون، وأبو جحيفة بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الفاء، واسمه وهب بن عبد الله أبو جحيفة السوائي، وقد مر فيما مضى.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في البيوع، عن حجاج بن منهال، وفي الطلاق عن آدم، وفي اللباس عن سليمان بن حرب، وعن أبي موسى، عن غندر. وهذا الحديث من أفراده، وفي بعض طرقه زيادة "كسب الأمة" وفي أخرى "كسب البغي" وتفرد منه بلعن المصور أيضا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: "بمحاجمه" بفتح الميم جمع محجم بكسر الميم، وهو الآلة التي يحجم بها الحجام.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فسألته" أي فسألت أبي، الظاهر أن سؤاله عن سبب مشتراه، ولكن لا يناسب جوابه بقوله: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم" ولكن فيه اختصار بينه في آخر البيوع من وجه آخر، عن شعبة بلفظ "اشترى حجاما فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك" ففيه البيان بأن السؤال إنما وقع عن كسر المحاجم، وهو المناسب للجواب، وسأل الكرماني هنا بقوله: فلم اشتراه؟ ثم أجاب بأنه اشتراه ليكسر محجمه ويمنعه عن تلك الصناعة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): فيه نظر لا يخفى، بل الصواب ما ذكرناه، وهو أيضا تنبيه على هذا; حيث قال: وفي بعض الرواية بعد لفظ "حجاما" "فأمر بمحاجمه فكسرت فسألته " يعني عن الكسر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وثمن الدم" يعني أجرة الحجامة، وأطلق الثمن عليه تجوزا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الواشمة" هي فاعلة الوشم "والموشومة" مفعوله، والوشم أن يغرز يده أو عضوا من أعضائه بإبرة، ثم يدر عليها النيل ونحوه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وآكل الربا" أي ونهى آكل الربا عن أكله، وكذا نهى موكله عن إطعامه غيره، ويقال: المراد من الآكل آخذه كالمستقرض، ومن الموكل معطيه كالمقرض، والنهي في هذا كله عن الفعل، والتقدير: عن فعل الواشمة وفعل الموشومة وفعل الآكل وفعل الموكل، وخص الآكل من بين سائر الانتفاعات; لأنه أعظم المقاصد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولعن المصور"عطف على قوله: "نهى" ولولا أن المصور أعظم ذنبا لما لعنه النبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): وهو على وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: فيه جواز شراء العبد الحجام، وسؤال عون بن جحيفة عن أبيه إنما كان عن كسر محاجمه، لا عن شرائه إياه كما ذكرناه.

                                                                                                                                                                                  الثاني: فيه النهي عن ثمن الكلب.

                                                                                                                                                                                  وفيه اختلاف العلماء، فقال الحسن وربيعة وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي والشافعي وأحمد وداود ومالك في رواية: ثمن الكلب حرام. وقال ابن قدامة: لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل على كل حال، وكره أبو هريرة ثمن الكلب، ورخص في كلب الصيد خاصة، وبه قال عطاء والنخعي.

                                                                                                                                                                                  واختلف أصحاب مالك، فمنهم من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: الكلب المأذون في إمساكه يكره بيعه ويصح، ولا تجوز إجارته. نص عليه أحمد، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: يجوز، وقال مالك في (الموطأ): أكره ثمن الكلب الضاري وغير الضاري; لنهيه - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وفي (شرح الموطأ) لابن زرقون: واختلف قول مالك في ثمن الكلب المباح اتخاذه; فأجازه مرة، ومنعه أخرى. وبإجازته قال ابن كنانة وأبو حنيفة، قال سحنون: ويحج بثمنه، وروى عنه ابن القاسم أنه كره بيعه، وفي (المدونة): كان مالك يأمر ببيع الكلب الضاري في الميراث والدين والمغانم، ويكره بيعه للرجل ابتداء، قال يحيى بن إبراهيم: قوله: "في الميراث" يعني لليتيم، وأما لأهل الميراث البالغين فلا يباع، إلا في الدين والمغانم، وروى أبو زيد عن ابن القاسم: لا بأس باشتراء كلاب الصيد، ولا يجوز بيعها، وقال أشهب في ديوانه، عن مالك: يفسخ بيع الكلب، إلا أن يطول. وحكى ابن عبد الحكم أنه يفسخ وإن طال، وقال ابن حزم في (المحلى): ولا يحل بيع كلب أصلا، لا كلب صيد، ولا كلب ماشية، ولا غيرهما، فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه، وهو حلال للمشتري، حرام للبائع، ينتزع منه الثمن متى قدر عليه، كالرشوة في دفع الظلم وفداء الأسير ومصانعة الظالم، ثم قال: وهو قول الشافعي ومالك وأحمد وأبي سليمان وأبي ثور وغيرهم. انتهى.

                                                                                                                                                                                  وقال عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وابن كنانة وسحنون من المالكية: الكلاب التي ينتفع بها يجوز بيعها، وتباح أثمانها، وعن أبي حنيفة أن الكلب العقور لا يجوز بيعه، ولا يباح ثمنه، وفي (البدائع): وأما بيع ذي ناب من السباع سوى الخنزير كالكلب، والفهد، والأسد، والنمر، والذئب، والدب، والهر ونحوها - جائز عند أصحابنا، وقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب، ثم عندنا: لا فرق بين المعلم وغيره، وفي رواية الأصيلي: فيجوز بيعه كيفما كان، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور، وأجاب الطحاوي عن النهي الذي في [ ص: 204 ] هذا الحديث وغيره أنه كان حين كان حكم الكلاب أن تقتل، وكان لا يحل إمساكها، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة، فما كان على هذا الحكم فثمنه حرام، ثم لما أبيح الانتفاع بالكلاب للاصطياد ونحوه، ونهي عن قتلها نسخ ما كان من النهي عن بيعها وتناول ثمنها.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): ما وجه هذا النسخ؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): ظاهر; لأن الأصل في الأشياء الإباحة، فلما ورد النهي عن اتخاذها، وورد الأمر بقتلها علمنا أن اتخاذها حرام، وأن بيعها حرام، وما كان الانتفاع به حراما فثمنه حرام كالخنزير، ثم لما وردت الإباحة بالانتفاع بها للاصطياد ونحوه وورد النهي عن قتلها، علمنا أن ما كان قبل من الحكمين المذكورين قد انتسخ بما ورد بعده، ولا شك أن الإباحة بعد التحريم نسخ لذلك التحريم ورفع لحكمه.

                                                                                                                                                                                  الثالث: فيه النهي عن ثمن الدم، وهو أجرة الحجامة، فقال الأكثرون: النهي فيه على التنزيه على المشهور; وذلك لأنه - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - احتجم وأعطى الحجام أجره، ولو كان حراما لم يعطه، ونقل ابن التين عن كثير من العلماء أنه جائز من غير كراهة، كالبناء، والخياط وسائر الصناعات. وقالوا: يعني نهيه عن ثمن الدم، أي السائل الذي حرمه الله، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: أجرة الحجام من ذلك، أي لا يجوز أخذه، وهو قول أبي هريرة والنخعي، واعتلوا بأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مهر البغي وكسب الحجام، فجمع بينهما، ومهر البغي حرام إجماعا، فكذلك كسب الحجام. وأما الذين حملوا النهي على التنزيه فاستدلوا أيضا بقوله لمحيصة: "أعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك" وقال آخرون: يجوز للمحتجم إعطاء الحجام الأجرة، ولا يجوز للحجام أخذها. رواه ابن جرير عن أبي قلابة، وعلته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الحجام أجرا، فجائز لهذا الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله، وليس للحجام أخذها؛ للنهي عن كسبه، وبه قال ابن جرير، إلا أنه قال: إن أخذ الأجرة رأيت له أن يعلف به ناضحه ومواشيه، ولا يأكله، فإن أكله لم أر بأكله حراما.

                                                                                                                                                                                  وفي (شرح المهذب): قال الأكثرون: لا يحرم أكله، لا على الحر، ولا على العبد، وهو مذهب أحمد المشهور. وفي رواية عنه وقال بها فقهاء المحدثين: يحرم على الحر دون العبد; لحديث محيصة المذكور.

                                                                                                                                                                                  الرابع: في النهي عن فعل الواشمة والموشومة; لأنه من عمل الجاهلية، وفيه تغيير لخلق الله تعالى، وروى الترمذي من حديث ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة" قال نافع: الوشم في اللثة. وأخرجه البخاري أيضا في اللباس على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن عبد الله "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات مبتغيات للحسن، مغيرات خلق الله" أخرجه الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: في آكل الربا وموكله، وإنما اشتركا في الإثم - وإن كان الرابح أحدهما - لأنهما في الفعل شريكان، وسيأتي في آخر البيوع وفي آخر الطلاق أنه لعن آكل الربا وموكله.

                                                                                                                                                                                  السادس: في التصوير، وهو حرام بالإجماع، وفاعله يستحق اللعنة، وجاء أنه يقال للمصورين يوم القيامة: أحيوا ما خلقتم، وظاهر الحديث العموم، ولكن خفف منه تصوير ما لا روح فيه، كالشجر ونحوه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية