الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2077 134 - حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يطيب، ولا يباع شيء منه إلا بالدينار والدرهم، إلا العرايا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "ولا يباع شيء منه إلا بالدينار والدرهم" وهما الذهب والفضة

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): ليس في الحديث ذكر رؤوس النخل.

                                                                                                                                                                                  (قلت): المراد من قوله: "بيع الثمر" أي: الثمر الكائن على رؤوس الشجر، يدل عليه قوله: "حتى يطيب" فإن الثمر الذي هو الرطب لا يطيب إلا على رؤوس الشجر.

                                                                                                                                                                                  ويحيى بن سليمان أبو سعيد الجعفي الكوفي ولكنه سكن مصر، سمع عبد الله بن وهب، وهو من أفراده، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز، وقد تكرر ذكره، وأبو الزبير بضم الزاي وفتح الباء الموحدة واسمه محمد بن مسلم بن تدرس بلفظ مخاطب مضارع الدرس، والحديث أخرجه أبو داود في البيوع أيضا، عن إسحاق بن إسماعيل، وأخرجه ابن ماجه في التجارات، عن هشام بن عمار.

                                                                                                                                                                                  قوله: "عن عطاء وأبي الزبير" كذا جمع بينهما عبد الله بن وهب وتابعه أبو عاصم عند مسلم ويحيى بن أيوب عند الطحاوي، كلاهما عن ابن جريج، ورواه سفيان بن عيينة [ ص: 302 ] عند مسلم عن ابن جريج: أخبرني عطاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "عن جابر" وفي رواية أبي عاصم المذكور أنهما سمعا جابر بن عبد الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: "عن بيع الثمر" بالثاء المثلثة أي: الرطب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "حتى يطيب" أي: طعمه، والغرض منه أن يبدو صلاحه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولا يباع شيء منه" أي: من الثمر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إلا بالدينار والدرهم" وقد ذكرنا الآن وجه ذكرهما.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إلا العرايا" أي: إلا العرايا بالابتياع بالدينار والدرهم، ويفسر هذا رواية يحيى بن أيوب، فإن في روايته "أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - رخص فيها" أي: في العرايا، وهي بيع الرطب فيها بعد أن يخرص ويعرف قدره بقدر ذلك من التمر، وقد مر أن قوما منهم الأئمة الثلاثة احتجوا بهذا الحديث وأمثاله على عدم جواز بيع الثمار على رؤوس النخل حتى تحمر أو تصفر، وأجاز ذلك قوم بعد ظهورها ومنهم أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وأصحابه، وقال ابن المنذر: ادعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر بالتمر، وهذا مردود; لأن الذي روى النهي عن بيع الثمر بالتمر هو الذي روى الرخصة في العرايا، وقال بعضهم: ورواية سالم الماضية في الباب الذي قبله تدل على أن الرخصة في بيع العرايا وقع بعد النهي عن بيع التمر بالثمر، ولفظه عن ابن عمر مرفوعا: ولا تبيعوا الثمر بالتمر، قال: وعن زيد بن ثابت أنه - صلى الله عليه وسلم - رخص بعد ذلك في بيع العرية، وهذا هو الذي يقتضيه لفظ الرخصة فإنها تكون بعد منع. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: أما قول ابن المنذر فإنه مردود; لأن رواية من روى النهي عن بيع الثمر بالتمر وروى الرخصة في العرايا لا يستلزم منع النسخ، على أنا قد ذكرنا فيما مضى أن هذا النقل عن الكوفيين الحنفية غير صحيح، وأما قول هذا القائل الذي قال: ورواية مسلم إلى آخره فقد رويناه فيما مضى في الباب الذي قبله، ولأن هذا الحديث مشتمل على حكمين مقرونين أحدهما النهي عن بيع الثمر بالتمر والآخر الترخيص في العرايا، ولا يلزم من ذكرهما مقرونين أن يكون حكمهما واحدا، ثم خرج أحدهما عن الآخر; لأن كلا منهما كلام مستقل بذاته، وقد يقرن الشيء بالشيء وحكمهما مختلف، ونظائر هذا كثيرة، وقد ذكر أهل التحقيق من الأصوليين أن من العمل بالوجوه الفاسدة ما قال بعضهم: إن القران في النظم يوجب القران في الحكم، وقول زيد بن ثابت أنه - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرية كلام تام لا يفتقر إلى ما يتم به.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): الاستثناء في الحديث يقتضي أن العرايا قد خرجت من صدر الكلام، فيقتضي أن تكون الرخصة بعد المنع .

                                                                                                                                                                                  (قلت): الاستثناء من قوله: ولا يباع شيء منه إلا بالدينار والدرهم، ولم تكن العرية داخلة في صدر الكلام الذي هو النهي عن بيع التمر بالثمر; لأنها عطية وهبة فلا تدخل تحت البيع حتى يستثنى منه، ولما لم يكن بيعا بين بالاستثناء أنه لا يجعل فيها الدينار والدرهم كما في البيع، والدليل على كونها هبة ما رواه الطحاوي فقال: حدثنا أحمد بن داود، قال: حدثنا محمد بن عون، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى البائع والمبتاع عن المزابنة، قال: وقال زيد بن ثابت: رخص في العرايا في النخلة والنخلتين توهبان للرجل فيبيعهما بخرصهما تمرا، ورواه الطبراني أيضا في الكبير، ثم قال الطحاوي: فهذا زيد بن ثابت، وهو أحد من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرخصة في العرية، فقد أخبر أنها الهبة، وقال الطحاوي أيضا: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " خففوا في الصدقات فإن في المال العرية والوصية " حدثنا بذلك أبو بكرة، قال: حدثنا أبو عمر الضرير قال: أخبرنا جرير بن خازم قال: سمعت قيس بن سعد يحدث عن مكحول الشامي ، عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بذلك، فدل على أن العرية إنما هي شيء يملكه أرباب الأموال قوما في حياتهم كما يملكون الوصايا بعد مماتهم.

                                                                                                                                                                                  (قلت): إسناده صحيح، وهو مرسل، والمرسل حجة عندنا.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): زيد بن ثابت سمى العرية بيعا حيث قال: ورخص بعد ذلك في بيع العرية .

                                                                                                                                                                                  (قلت): سماها بيعا لتصورها بصورة البيع لا أنها بيع حقيقة؛ لانعدام القبض، ولأنها لو جعلت بيعا حقيقة لكان بيع الثمر بالتمر إلى أجل، وأنه لا يجوز بلا خلاف، وقد ذكرنا هذا مرة فيما مضى.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية