الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2027 84 - حدثنا علي قال: حدثنا سفيان قال: كان عمرو بن دينار يحدثه عن الزهري، عن مالك بن أوس أنه قال: من عنده صرف؟ فقال طلحة: أنا حتى يجيء خازننا من الغابة، قال سفيان: هو الذي حفظناه من الزهري ليس فيه زيادة، فقال: أخبرني مالك بن أوس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن فيه اشتراط القبض; لما فيه من الربويات، وفي الترجمة ما يشعر باشتراط القبض في الطعام، وزعم ابن بطال أنه لا مطابقة بين الحديث والترجمة هنا; فلذلك أدخله في باب بيع ما ليس عندك، وهو مغاير للنسخ المروية عن البخاري. وعلي هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، ومالك بن أوس - بفتح الهمزة وسكون الواو وفي آخره سين مهملة - ابن الحدثان - بفتح المهملتين وبالمثلثة - التابعي عند الجمهور، قال البخاري: قال بعضهم: له صحبة، ولا يصح، وقال بعضهم: ركب بخيل في الجاهلية. وقيل: إنه رأى أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وروى عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - مرسلا.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن الزهري. وأخرجه مسلم في البيوع أيضا، عن قتيبة ومحمد بن رمح، وعن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وزهير بن حرب. وأخرجه أبو داود فيه، عن القعنبي، عن مالك به. وأخرجه الترمذي فيه، عن قتيبة به. وأخرجه النسائي فيه، عن إسحاق بن إبراهيم به. وأخرجه ابن ماجه في التجارات، عن محمد بن رمح به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد وهشام بن عمار ونصر بن علي ومحمد بن الصباح، خمستهم عن سفيان، عن الزهري به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: "من عنده صرف" أي من عنده دراهم حتى يعوضها بالدنانير; لأن الصرف بيع أحد النقدين بالآخر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال طلحة" هو ابن عبد الله أحد العشرة المبشرة" أنا أعطيك الدراهم، لكن اصبر حتى يجيء الخازن من الغابة" والغابة بالغين المعجمة والباء الموحدة في الأصل الأجمة ذات الشجر المتكاثف، سميت بها; لأنها تغيب ما فيها، وجمعها غابات، ولكن المراد بها هنا غابة المدينة، وهي موضع قريب منها من عواليها، وبها أموال أهل المدينة، وهي المذكورة في عمل منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة قال بالإسناد المذكور.

                                                                                                                                                                                  قوله: "هو الذي حفظناه عن الزهري" أي الذي كان عمرو يحدثه عن الزهري هو الذي حفظناه عن الزهري بلا زيادة فيه، قال الكرماني: وغرضه منه تصديق عمرو. [ ص: 252 ] وقال بعضهم: أبعد الكرماني في قوله هذا.

                                                                                                                                                                                  (قلت): ما أبعد فيه، بل غرضه هذا، وشيء آخر، وهو الإشارة إلى أنه حفظه من الزهري بالسماع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال: أخبرني" أي قال الزهري أخبرني مالك بن أوس.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يخبر" جملة حالية.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الذهب بالذهب" ويروى "الذهب بالورق" بكسر الراء، وهو رواية أكثر أصحاب ابن عيينة، عن الزهري، وهي رواية أكثر أصحاب الزهري، ثم معنى قوله: "الذهب بالذهب" أي بيع الذهب بالذهب ربا، إلا أن يقول كل واحد من المتصارفين لصاحبه: هاء، يعني خذ أو هات، فإذا قال أحدهما، خذ: يقول الآخر: هات، والمراد أنهما يتقابضان في المجلس قبل التفرق منه، وأن يكون العوضان متماثلين متساويين في الوزن، كما في حديث أبي بكرة سيأتي "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء".

                                                                                                                                                                                  ثم الكلام في الذهب هل مذكر أم مؤنث، فقال في (المنتهى): ربما أنث في اللغة الحجازية، والقطعة منه ذهبة، ويجمع على أذهاب وذهوب، وفي (تهذيب الأزهري) لا يجوز تأنيثه، إلا أن يجعل جمعا لذهبة، وفي (الموعب) عن صاحب (العين) الذهب التبر، والقطعة منه ذهبة يذكر ويؤنث. وعن ابن الأنباري: الذهب أنثى وربما ذكر. وعن الفراء: وجمعه ذهبان.

                                                                                                                                                                                  وأما قوله: "هاء وهاء" فقال صاحب (العين): هو حرف يستعمل في المناولة، تقول: هاء وهاك، وإذا لم تجئ بالكاف مددت، فكأن المدة في هاء خلف من كاف المخاطبة، فتقول للرجل: هاء، وللمرأة: هائي، وللاثنين: هاؤما، وللرجال: هاؤموا، وللنساء: هاؤن، وفي (المنتهى) تقول هاء يا رجل بهمزة ساكنة، مثال: "هع" أي خذ، وفي (الجامع): فيه لغتان: بألف ساكنة وهمزة مفتوحة، وهو اسم الفعل، ولغة أخرى: ها يا رجل، كأنه من هاي يهاي، فحذفت الياء للجزم، ومنهم من يجعله بمنزلة الصوت: ها يا رجل، وها يا رجلان، وها يا رجال، وها يا امرأة، وها يا امرأتان، وها يا نسوة.

                                                                                                                                                                                  وفي (شرح المشكاة): فيه لغتان المد والقصر، والأول أفصح وأشهر، وأصله هاك، فأبدلت من الكاف، معناه خذ، فيقول صاحبه مثله، والهمزة مفتوحة، ويقال بالكسر، ومعناه التقابض، وقال المالكي: وحق ها أن لا يقع بعدها إلا، كما لا يقع بعدها خذ، وبعد أن وقع يجب تقدير قول قبله يكون به محكيا، فكأنه قيل: ولا الذهب بالذهب إلا مقول عنده من المتبايعين: هاء وهاء، وقال الطيبي: ومحله النصب على الظرفية، والمستثنى منه مقدر، يعني بيع الذهب بالذهب ربا في جميع الأزمنة، إلا عند الحضور والتقابض.

                                                                                                                                                                                  قوله: "والبر بالبر" أي وبيع البر بالبر، وهكذا يقدر في البواقي.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): أجمع المسلمون على تحريم الربا في هذه الأشياء الأربعة التي ذكرت في حديث عمر رضي الله عنه، وشيئان آخران، وهما الفضة والملح، فهذه الأشياء الستة مجمع عليها، واختلفوا فيما سواها، فذهب أهل الظاهر ومسروق وطاوس والشعبي وقتادة وعثمان البتي فيما ذكره الماوردي - إلى أنه يتوقف التحريم عليها، وقال سائر العلماء: بل يتعدى إلى ما في معناها.

                                                                                                                                                                                  فأما الذهب والفضة، والعلة فيهما عند أبي حنيفة رضي الله عنه الوزن في جنس واحد، فألحق بهما كل موزون. وعند الشافعي العلة فيهما جنس الأثمان.

                                                                                                                                                                                  وأما الأربعة الباقية ففيها عشرة مذاهب:

                                                                                                                                                                                  الأول: مذهب أهل الظاهر أنه لا ربا في غير الأجناس الستة.

                                                                                                                                                                                  الثاني: ذهب أبو بكر الأصم إلى أن العلة فيها كونها منتفعا بها، فيحرم التفاضل في كل ما ينتفع به، حكاه عنه القاضي حسين.

                                                                                                                                                                                  الثالث: مذهب ابن سيرين وأبي بكر الأودي الشافعي أن العلة الجنسية، فحرم كل شيء بيع بجنسه كالتراب بالتراب متفاضلا، والثوب بالثوبين، والشاة بالشاتين.

                                                                                                                                                                                  الرابع: مذهب الحسن بن أبي الحسن أن العلة المنفعة في الجنس، فيجوز عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار، ويحرم عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته ديناران.

                                                                                                                                                                                  الخامس: مذهب سعيد بن جبير أن العلة تفاوت المنفعة في الجنس، فيحرم التفاضل في الحنطة بالشعير لتفاوت منافعهما، وكذلك الباقلاء بالحمص، والدخن بالذرة.

                                                                                                                                                                                  السادس: مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن العلة كونه جنسا تجب فيه الزكاة، ويحرم الربا في جنس تجب فيه الزكاة من المواشي والزروع وغيرهما، ونفاه عما لا زكاة فيه.

                                                                                                                                                                                  السابع: مذهب مالك كونه مقتاتا مدخرا، فحرم الربا في كل ما كان قوتا مدخرا، ونفاه عما ليس بقوت كالفواكه، وعما هو قوت لا يدخر كاللحم.

                                                                                                                                                                                  الثامن: مذهب أبي حنيفة أن العلة الكيل مع جنس، أو الوزن مع جنس، فحرم الربا في كل مكيل، وإن لم يؤكل كالجص والنورة والأشنان، ونفاه عما لا يكال ولا يوزن، وإن كان مأكولا كالسفرجل والرمان.

                                                                                                                                                                                  التاسع: مذهب سعيد بن المسيب، وهو قول الشافعي في القديم: أن العلة كونه مطعوما يكال أو يوزن، فحرمه في كل مطعوم يكال أو يوزن، [ ص: 253 ] ونفاه عما سواه، وهو كل ما لا يؤكل ولا يشرب، أو يؤكل ولا يوزن كالسفرجل والبطيخ.

                                                                                                                                                                                  العاشر: أن العلة كونه مطعوما فقط، سواء كان مكيلا أو موزونا أم لا، ولا ربا فيما سوى المطعوم غير الذهب والفضة، وهو مذهب الشافعي في الجديد. وفي (شرح المهذب): وهو مذهب أحمد وابن المنذر.

                                                                                                                                                                                  قلت: مذهب مالك في الموطأ أن العلة هي الادخار للأكل غالبا، وإليه ذهب ابن نافع، وفي التمهيد: قال مالك: فلا تجوز في الفواكه التي تيبس وتدخر، إلا مثلا بمثل يدا بيد إذا كانت من صنف واحد، ويجيء على ما روي عن مالك أن العلة الادخار للاقتيات أن لا يجري الربا في الفواكه التي تيبس; لأنها ليست بمقتات، ولا يجري الربا في البيض; لأنها وإن كانت مقتاتة فليست بمدخرة.

                                                                                                                                                                                  وذكر صاحب (الجواهر): ينقسم ما يطعم إلى ثلاثة أقسام:

                                                                                                                                                                                  إحداها: ما اتفق على أنه طعام يجري فيه حكم الربا، كالفواكه والخضر والبقول والزروع التي تؤكل غداء، أو يعتصر منها ما يتغدى من الزيت، كحب القرطم وزريعة الفجل الحمراء وما أشبه ذلك.

                                                                                                                                                                                  والثاني: ما اتفق على أنه ليس بغداء بل هو دواء، وذلك كالصبر والزعفران والشاهترج وما يشبهها

                                                                                                                                                                                  والثالث: ما اختلف فيه للاختلاف في أحواله وعادات الناس فيه، فمنه الطلع والبلح الصغير، ومنه التوابل كالفلفل والكزبرة، وما في معناها من الكمونين والزاريانج والأنيسون، ففي إلحاق كل واحد منها بالطعام قولان. ومنها الحلبة، وفي إلحاقها بالطعام ثلاثة أقوال; مفرق في الثالث، فيلحق به الخضراء دون اليابسة. ومنها الماء العذب، قيل بإلحاقه بالطعام لما كان مما يتطعم، وبه قوام الأجسام. وقيل: يمنع إلحاقه; لأنه مشروب، وليس بمطعوم.

                                                                                                                                                                                  وأما العلة في تحريم الربا في النقدين الثمنية. وهل المعتبر في ذلك كونهما ثمنين في كل الأمصار أو جلها؟ وفي كل الأعصار، فتكون العلة بحسب ذلك قاصرة عليها؟ أو المعتبر مطلق الثمنية، فتكون متعدية إلى غيرهما؟ في ذلك خلاف، يبنى عليه الخلاف في جريان الربا في الفلوس إذا بيع بعضها ببعض أو بذهب أو بورق.

                                                                                                                                                                                  وفي (الروضة): والمراد بالمطعوم ما يعد للطعم غالبا، تقوتا أو تأدما أو تفكها أو غيرها، فيدخل فيه الفواكه والحبوب والبقول والتوابل وغيرها، وسواء ما أكل نادرا كالبلوط والطرثوب، وما أكل غالبا، وما أكل وحده أو مع غيره. ويجري الربا في الزعفران على الأصح، وسواء أكل للتداوي كالإهليلج والبليلج والسقمونيا وغيرها، وما أكل لغرض آخر، وفي (التتمة) وجه: أن ما يقتات كثيره ويستعمل قليله في الأدوية كالسقمونيا لا ربا فيه، وهو ضعيف، والطين الخراساني ليس ربويا على الأصح، ودهن الكتان والسمك وحب الكتان وماء الورد والعود ليس ربويا على الأصح، والزنجبيل والمصطكى ربوي على الأصح، والماء إذا صححنا بيعه ربوي على الأصح، ولا ربا في الحيوان لكن ما يباح أكله على هيئته كالسمك الصغير على وجه لا يجري فيه الربا في الأصح، وأما الذهب والفضة فقيل: يثبت فيهما الربا لعينهما لا لعلة، وقال الجمهور: العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة، وإن شئت قلت: جوهرية الأثمان غالبا، والعبارتان تشملان التبر والمضروب والحلي والأواني منهما، وفي تعدي الحكم إلى الفلوس إذا أراجت وجه، والصحيح أنها لا ربا فيها لانتفاء الثمنية الغالبة، ولا يتعدى إلى غير الفلوس من الحديد والرصاص والنحاس وغيرها قطعا. انتهى.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية